استعمارٌ ثقافي
كاظم غيلان
الشعوب المؤمنة بفكرة التحرر والاستقلال والمتعطشة لحريتها تعطي خيرة أبنائها وبناتها شهداءً لنيل تلك الفكرة العظيمة فهي تستحق ذلك . نبذنا الاستعمار مبكراً وتظاهرنا ضده بهتافات تشق عنان السماء واحتفلنا بالحرية وغنينا لها وأنشدناها شعراً، لكن الاستعمار ولود دائماً ويتناسل، يتخذ أشكالاً أخرى غير تلك التي تلخصت بالهيمنة على بلدان غنية بثرواتها ومواقعها
الستراتيجية .
دخلنا هذه الأوساط التي عرفت بعناوينها الثقافية والفنية البراقة، فوجدنا الاستعمار وقد عشش فيها وابتكر أساليب لفرض هيمنة وسطوة قادمتين من محيط يدعي الشرعية، بل ويتخذ من الديمقراطية قناع وقاية وبذلات مدرعة لمقاومة نابذي
فكرته . فأنت تعيش في وسط طغت عليه كل العجائب والغرائب الاستعمارية المتشحة بالحرية . فالمثقف النقابي الذي يرتدي أقنعة عدة يجيد لغة المساومة والكسب بكل أساليبه المشروعة وغير المشروعة، وهذا المثقف يمنح لنفسه فرمانات عدة، في مقدمتها فرمان الأبوة والوصاية، ولحاشيته، والتي هي الأصح امتيازاتها التي تتلخص في دعوة هنا وإيفاد هناك وعلى قدر ما يقدم من خدمات لوالي نعمته تأتي (العزائم).
والمثقف (الطائفي) الذي يخضعك لما تريده طائفته من دعابة وإعلان ولن يجد في الثقافة من يمثلها سواها، أما الآخرون فهم جيش الأعداء الذي يجب إبادته حتى لو كانت منجزاته الإبداعية قد وصلت لأقصى الكرة الأرضية ونالت اهتمام
مثقفيها .
الاستعمار الثقافي يصل حتى إلى حلقات الصداقات، فأنت صديقي وعليك الولاء لي فقط، أما من لي خلاف معه فعليك معاداته، وإلا فأنت عدوي أيضاً، ومن أعلن تخوينه عليك موافقتي والاصطفاف معي ولن أسمح لك بالدفاع عنه أبداً، لكنني أظل أحدثك عن حرية التعبير والرأي والرأي الآخر وما بعد الحداثة وعليك أن تصغي جيداً، وهذا من باب استعمارك أيضاً.
هذه أوساط تمارس خديعتها معك، وماعليك إلا أن تحترس وتزيد عمق تجربتك بما تقرأ وتنتج، فذلك وحده الذي يقيك شر استعمارك وأنت تتصدى لهذا القطيع الذي يفترسك بكل ما أوتي به من أساليب. ولا يفوتني استعمار المقدس الثقافي الذي يستشري في هكذا أوساط مريضة، فهو يضع لك حدوداً متخمة بحقل من ألغام ما إن تصلها حتى تنفجر عليك وتقطعك أشلاءً. بعث لي صديق مقطع فيديو حوارياً مع شاعر شاب، يكتب بالعامية، يسأله محاوره عن رأيه بشاعرة بحسب سؤاله فيرد عليه الشاب :
- حتى لو لم تكن شاعرة فهي شاعرة لأن الشاعر الكبير فلان أشاد بها! هذا الشاب وبهكذا بداية تجربة مع احترامي له ولشاعرته لم يتقبل الاستعمار وحسب بل يكاد يصرخ وبقوة :
- تعالوا استعمروني.