مسلسل {الجنة والنار} .. ثقل الواقع وفنتازيا المعالجة

منصة 2024/09/29
...

 رضا المحمداوي 


ولا تخفى تأثيرات السينما والدراما العالمية ونتاجاتها المعروفة على هذا الاشتغال الدرامي الجديد  بتوجهاته الحديثة المغايرة لدى الفنانين الشباب الذين يخوضون تجاربهم الفتية الناشئة وطبيعتها الطرية التي لمْ يصلبْ عودها بعد.

والسؤال المنبثق في هذا الجانب: هل هذه الطريقة الجديدة في تناول ومعالجة الموضوعات الدراميّة وأسلوب تقديمها الإخراجي هي طريقة احترافية مبتكرة في الانتاج الدرامي؟ أمْ أنها تجربة فنية انتاجية ذات صبغة شخصيّة منفردة محكومة أو مسكونة بروح الهواة ودافعهم التجريبي في التعامل المستحدث مع  قضايا الدراما العراقية ومحاولة الخروج من شرنقتها القديمة؟

يصحُّ اِطلاق تسمية "دراما المؤلف" على هذا النمط الدرامي فقد قام مصطفى الركابي بكتابة القصة وتولى إخراج المسلسل، إما التأليف فقد اعتمد صيغة الكتابة الجماعية واطلق عليه "غرفة الكتابة" والتي انقسم عملها إلى ورشتين، الأولى لتطوير السيناريو والثانية ورشة الشخصيات.

أما الانتاج  فأنه من صنف أو نوع الانتاج المستقل بعيداً عن وصاية المؤسسات الرسمية والقنوات الفضائيّة المعروفة باِنتاجها الدرامي، وقد حمل عنوان انتاجي هو "بيت الدراما في الناصرية" الذي كسر احتكار المركزية الانتاجية في العاصمة بغداد لأول مرة في سابقة ريادية تحسبُ للناصرية و"بيتها الدارمي" وحتى طريقة عرض المسلسل جاءت عن طريق العرض المجاني على موقع المنصة الالكتروني وليس عن طريق إحدى القنوات التفزيونية، وأحسب أنَّ هذه الاستقلالية في الانتاج والعرض مع غَلَبَة الطابع الفني الشخصي لمصطفى الركابي هي التي أتاحتْ للمسلسل هذه الحرية الواسعة في التناول الفني والمعالجة الدرامية وفي اسباغ الخصوصية الدرامية المنبثقة من مدينة الناصرية تحديداً بدلالة العنوان الأوّلي للمسلسل الذي كان يحمل "الناصرية ترحب بكم".


صراع تقليدي 

في التناول النقدي الإجرائي سأركّزُ على جانبين رئيسين هما الموضوعة الدرامية والإسلوب الفني الإخراجي بطابعه الشخصي ومدى ما حققه هذان الجانبين من تناغم وانسجام على الشاشة. فالموضوعة الاجتماعية المتمثلة بالصراع العائلي القديم أوّلاً بين الأخوين "هاشم" و"فرج- سنان العزاوي" وفي ما بعد بين الأخير وعائلة "هاشم" التي يمثلها "حيدر- أمير عبد الحسين" ستكتسب أهميتها وطبيعتها المتنامية من الخصوصية الدرامية المكانية لمدينة الناصرية التي أظهر المسلسل ملامح بيئتها الجنوبية ومجتمعها الذكوري وطابعها العشائري المحافظ مع مظاهر التدين الشعبي بطقوسه وشعائره المتوارثة، وعند هذه النقطة بالذات حققَّ المسلسل نجاحَهُ أو حضورَهُ الجماهيري من خلال التخلص من عقدة تقديم المجتمع الجنوبي والشخصيّة الجنوبية التي طالما عانت منها الدراما العراقية، حيث نجح المسلسل في تقديم نموذج درامي بطبيعة جنوبية واضحة وقدَّمَ نماذج درامية تمتلك الهوية الجنوبية بكامل مواصفاته البيئية وخصوصيتها الاجتماعية وجاءت الأدوات الفنية من اِتقان اللهجة ومفرداتها وإجادة التمثيل من قبل فنانين من البيئة ذاتها والحرص الفني الواضح للمحافظة على هذه المواصفات الاجتماعية وطبيعتها العائلية ومحاولة تقديمها بصيغة صافية لا تشوبها شوائب الدراما الهجينة والتي غالباً ما انطوتْ على إساءة لتك النماذج الإنسانية وخصائصها الجنوبية.

وستنحّى الموضوعة الاجتماعية بطابع الصراع التقليدي بين الخير والشر والمتمثل بين "فرج" وعائلة أخيه هاشم منحىً مغايراً آخر في المعالجة الدرامية لها ،وذلك حين يسعى المسلسل لتجسيد الشر المطلق في شخصية فرج والإشارة إليهِ على أنه هو الشيطان نفسه وما يتبع ذلك من أعمال الجن والسحر الأسوّد، وقد اعتمد المسلسل بذلك على بعض المقولات والمفاهيم الدينية التي تقرُّ بأنَّ الشيطان- ابليس يمكن أن يتجسد بهيئة إنسان أو حيوان وقد تمّت الاستعانة بأحاديث متفرقة من الخطيب في مجلس العزاء الحسيني ومقطع صوتي من محاضرة للشيخ: أحمد الوائلي "يرحمه الله" لإثبات ذلك.

وهذا المسعى الدرامي في اِحلال شخصية الشيطان في شخصية فرج سيأخذني إلى الجانب الرئيس الثاني والمتمثل بالأسلوب الإخراجي وأدواته الفنية حيث اِنقاد المسلسل إلى خلط الواقعي بما هو خيالي أو غرائبي، وللأمانة فانَّ هذه المعالجة الفنتازية لمْ تكنْ لتفرَّق بين العالمين "الواقعي والغرائبي" بل كانت تعمل على تصادمهما معا لتجعل الواقع أكثر احتداماً وانفعالاً، وقد انتقل هذا المسعى الدرامي إلى التجسيد الفني بطابعه الفنتازي لدى المخرج من خلال اختفاء صور هاشم الموجودة في البيت تزامناً مع وصول فرج  للناصرية بعد سنوات طويلة من الغياب القسري. وكذلك في الايحاء بأنَّ مرض الأخ الأكبر "محمد- حيدر الحمداني" قد تمَّ بتأثير من سحر "فرج" عليه. 


المفردات الفنية 

وقد امتزجتْ هذه المعالجة الفنتازية بالاسلوب الإخراجي للمخرج وفي طريقة استخدامه لأدواتهِ الفنية واختيارهِ لاسلوبه القائم هو الآخر على الخروج عن كل ما هو مُتعارف عليه أو ثابت في المشهدية الدرامية وتقطيع اللقطات وفي طريقة استخدام الصوت الخافت والإضاءة الباهتة والتصوير الليلي وحركة الكاميرا والمونتاج وفي إدارة الممثلين والتعامل معهم ووقوفهم أمام الكاميرا، وقد حفلتْ هذه المفردات الفنية واستخدامتها باخفاقات وعيوب عديدة رافقتْ تعامل المخرج معها وتركتْ آثارها السلبية واضحة على الصورة النهائية المعروضة على الشاشة ويمكن الإشارة إلى بعض لمحات من المعالجة الإخراجية من خلال اللقطات الفنية التالية: 

- اعتماد المخرج على قطع استمرارية المشهد واللقطات المُكونة له واللجوء إلى المونتاج القافز على الزمن الدرامي في ديمومتهِ ولحظتهِ وآنيتهِ، ومثل هذا الأسلوب المونتاجي قد يكون مقبولاً ويمرُّ مروراً عادياً في إخراج الفيديو كليب والفيديو- فلوك لكن هذه الخفة والسرعة والقفز المستمر لا تتناسب مع الدراما ورصانتها وثقلها الفني  النوعي المتعارف عليه، ولذا قد يكون هذا الاستخدام من عيوب المخرج الرئيسة، ذلك لأن هذه المشهدية الدرامية التي اعتمدها المخرج والحل المونتاجي في اختزال وتكثيف الزمن والتخلص مما هو زائد بدتْ لنا وكأنَّها 

مأخوذة من "البروفات" واللقطات غير الصالحة فنياً أو الفائضة عن الحاجة والمعروفة ب(الآوتات).

- اعتماد المشاهد الدرامية الطويلة مع الكاميرا الثابتة التي تبدو وكأنَّها من كاميرات المراقبة البيتية، إضافة  إلى دورات التصوير الطويلة التي بدأتْ تثقل إيقاع المشاهد مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ طبيعة المشاهد العامة للمسلسل كانت طبيعة جماعية يشترك في أدائها مجموعة من الممثلين، وهذه الطبيعة الجماعية مع عدم وجود الحلول المونتاجية للمشاهد الطويلة وثبات الكاميرا أدّتْ إلى تداخل أصوات الممثلين وتداخل حواراتهم والتي تصل أحياناً إلى الثرثرة الدرامية والحوار الفائض والمُعاد وخلق إيقاع صاخب مع ملاحظة كثرة مشاهد المشاجرات والعراك والصياح والصوت العالي، مع ملاحظة أنَّ المخرج قد استعان بمجموعة كبيرة من الممثلين (من غير الشخصيات الرئيسة) بممثلين هواة أو غير متمرسين أو يقفون أمام الكاميرا لأوَّل مرة، مع اعطاء الحرية الواسعة لهم بالتصرف في حواراتهم وعدم الالتزام الصارم بها إلى حد الارتجال وهو الأمر الذي دفعهم إلى حافة العشوائية.

- غياب بارز لزوايا التصوير المتقابلة أو المتناظرة مع عدم استخدام اللقطات القريبة التي تبرزُ جهدَ الممثل وأداءَه في داخل ثنايا 

المشاهد الطويلة واللقطات العامة وازداد هذا الوضع الفني رداءةً عند استخدام الكاميرا الخلفية في أكثر من مشهد حيث تكون الكاميرا في ظهر الممثل وبذلك يتم حجب الأداء الفني للممثل .

- إنَّ لجوء المخرج لمثل هذه الحلول الفنية وعدم قدرته على التخلص من الزوائد والأزمان الدرامية الفائضة وعدم رغبته في الاقتراب 

من حدود ومواصفات العمل الدرامي التقليدي قد دفعتْهُ ليبدو لنا وكأنَّه فَقَدَ قدرتَه على الامساك بزمام القيادة والتحكم بمجريات المشاهد واللقطات، أو كأنَّ عربة الأدوات والمفردات الفنية المستخدمة قد خَرجَتْ عن السكة! 

وهناك بصمات تمثيلية متميزة تركها بعض الفنانين وتستحق الاشادة والثناء مثل تحسين داحس وياسر البراك وحيدر الحمداني وإسراء ياسين وزهراء كلخان في حين أنَّ بقية الشخصيات كانت بحاجة إلى التعريف الدرامي العميق بها وتجسيدها على نحو أكثر حضوراً وتميزاً بما يقرّبُها من المتلقي ويزيد من حضورها الفني على الشاشة.