أشواق النعيمي
لعل أهم ما يميز مجموعة "عراقنامه" للقاص محمد الكاظم تحررها من الشكل الكلاسيكيّ الموبساني نسبة إلى موبسان الذي قسم البناء القصصيّ إلى ثلاثة أجزاء هي، البداية والوسط والخاتمة. ثيمات القصص رغم أنها مألوفة، وملتقطة من المشهد الواقعي، إلا أنها مرت من وجهة نظر ساخرة ومتمردة، وارتبطت بأفكار جامحة ووظفت بأساليب يصعب حجزها داخل قوالب تقليدية، فجاءت على أشكال فنيّة تجريبيّة حرص القاص على تنوعها، كل قصة وضعت داخل شكل مختلف لتبهر القارئ.
من أبرز تلك الأساليب توظيف المتواليات القصصيَّة، في قصة "بغداد ـ فرانكفورت" جاءت القصة الأولى بشكل رسائل معنونة بين وداد وزوجها، تدفع تلك الرسائل بالمتلقي إلى استنتاج ذهنيّ يكتشف في القصة التالية حقيقة مغايرة تماما لاستنتاجه، وباستخدام أسلوب "التدوين في منتديات التواصل الاجتماعي" يتسع أفق الحكاية في القصة التالية "أمور نسائيّة" لنقرأ على حائط المنتدى قصصا إنسانيّة من دول عربية متنوعة، تشبه قصة "حازم" محور الحدث، يحمل أبطالها الاسم نفسه، لكنهم ماتوا بطرق أخرى. وتمثل متتالية "كتاب الزعباط" يوميات مغترب معنونة، كتبت بأسلوب ساخر، وبتقنية عين الكاميرا وهي تلتقط مشاهدها المكانية من زوايا مختلفة لتوثق معاناة العراقيين في عَمان آنذاك.
وجاءت بعض القصص بأسلوب السرد الروائي، وهي تتوغل في زمن الشخصيّة من خلال الاسترجاع الزمني المتراكم، مع وجود نقطة تحول في الحدث تدفع القارئ للتأمل والتخمين وإعادة الاستنتاج.
وتذيل معظم قصص المجموعة بومضة صادمة أو مبهمة أو استفهامية أو ساخرة، تعد خارطة طريق لكتاب النص حسب فلسفة القاص ورؤيته الفكرية.
"هامش كتبه محقق الحي على آخر صورة ملتقطة بجهاز السيلكود ريموغراف: لن يحصل شيء. كلهم يريدون أن يصبحوا زعماء ههههههههههه. سأنام مطمئنا. انتهى".
استخدام التنوع الخطي حجما ولونا، منح بعض القصص شكلا فنيا متفردا له دلالاته الرمزية التي تستفز مخيلة القارئ وتثير دهشته، والجمل التحذيرية المتقاطعة بخط مائل ولون غامق في قصة "دفتر الجمل" التي ترمز إلى فوبيا الكرسي السياسي "اشترى حزاما جيدا، وحذار من أن يسقط بنطلونك أمامهم فهؤلاء لن ينسوا زلة من هذا النوع"، وفي قصة "دائرة الطب العدلي السماوية" يتضاعف تدريجيا حجم الخط لجملة استفهامية "كيف مر" في خاتمة القصة دلالة على رفع الصوت الغاضب والمتألم حد الصراخ للاستفهام عن الوسيلة التي عبر من خلالها الانتحاري الحواجز الأمنية المشددة.
الكتابة داخل الأشكال الهندسية كالمربعات، والمستطيلات المتطابقة لتعبر في إحدى القصص عن الأفكار المستنسخة في المجتمع. أو لتدوين المعلومات بمحاكاة أسلوب الشرح الموضوعي في المناهج والكتب بتدوين النص وترقيمه داخل المستطيل، وكتابة السرد التوضيحي حوله حسب أسلوب التفاسير القرآنية والكتب الفقهية.
يُشيد القاص عوالمه الحكائية من الخيال والتراث والتاريخ، وتتميز المجموعة بحضور ثنائية المكان والموت أو الموت المكاني، وتجزئته، بتوزيعه على أيام الأسبوع في قصة "أيام الجحيم السبعة" وعلى مقاعد الكيا في "قصة الكيا وكرسيها المريب" ومانشيتات صحفية في قصة "البلشفي".
اتساع الأفق التجريبي في قصص "العراقنامه" مغامرة فنية محسوبة،
لكن لابد من الإشارة إلى فقدان
الحكاية في بعض القصص مركزيتها بسبب فتح أكثر من مسار ومستوى، فصارت تتأرجح بين الوهم المألوف والوهم غير المألوف، بين السرد الذاتي والموضوعي، وبين الشخصيّة السردية والشخصيّة الميتاسردية.