حضارة ما بين النهرين الأسطورية

بانوراما 2019/06/22
...

ترجمة وإعداد: مي اسماعيل 
كانت عشرينيات القرن الماضي حقبة ذهبية بالنسبة للإكتشافات الأثرية المهمة؛ بدأت بعثور “هاورد كارتر” على قبر الفرعون توت عنخ آمون سنة 1922. وإنتهى ذلك العقد بإكتشافٍ مذهل آخر: عثور 
عالم الآثار البريطاني “ليونارد وولي- Leonard Woolley” 
( 1880 - 1960 ) على مقابر ملكية سليمة، تعود لأكثر من أربعة آلاف سنة في مدينة أور (جنوب العراق)؛ من نتاج الحضارة السومرية التي قامت عند فجر التاريخ.
 
فقد كشفت التنقيبات في مقابر أور الملكية عن الروعة الاسطورية لحضارة وادي الرافدين؛ وكانت بالنسبة لليونارد وولي، تحقيقا لحلم كل باحث أثاري: التنقيب في أهم مدن العالم القديم. ملأت أخبار الكشف الأثري المهم عناوين الصحف على ضفتي الأطلسي، ليس فقط من حيث كمية اللقى المكتشفة ومهارة الحرفة التي أنتجتها؛ بل لأنها ألقت الضوء على طقوس الدفن السومرية. كان من ضمن الاكتشافات حلي دقيقة الصنع وأدوات موسيقية، وعدد كبير من جثث الجنود والخدم والحاشية الذين جرى دفنهم مع ملوكهم الموتى. 
 
إكتشافات ملحمية
تنامى الإهتمام الأكاديمي والعام بحضارة وادي الرافدين القديمة بإضطراد منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ فخلال كانون الأول من سنة 1872 قدم عالم الآشوريات “جورج سميث” بحثا أمام جلسة حاشدة لجمعية “علم الآثار التوراتي” حضرها رئيس الوزراء البريطاني (آنذاك) “وليام غلادستون”.
وقد أثار ما كشف عنه سميث أثناء تلك الجلسة ضجة دولية. كان سميث يترجم سلسلة من الرقيمات الطينية من مكتبة الملك “آشوربانيبال” بنينوى؛ وهي النصوص التي صارت تعرف اليوم “بــملحمة كلكامش” ، وتعتبر أقدم عمل أدبي معروف على مستوى العالم. وجد سميث في تلك الملحمة ذكراً لطوفان كان مشابها الى حد كبير لما ذكره كتاب سفر التكوين عن العهد القديم. يُعتقد أن” ملحمة كلكامش” كتبت نحو 1200 ق.م.؛ مما يجعلها سابقة لنصوص الكتاب المقدس العبري.  
سرعان ما التقطت الصحف قصة عمل سميث، وأججت الاهتمام العام بحقب تاريخ ما بين النهرين. أطلقت متاحف وجامعات لدى كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة بعثات آثارية بحثا عن بقايا حضارات سومر وآشور وبابل؛ وهي المناطق التي قامت فيها أول مدن التأريخ وتطورت. ومن بين المدن التي وقع عليها الإختيار للتنقيب الدقيق كان “تل المكير”، التي تعرف اليوم بمدينة
أور. 
 
حرب وسلام وآثار
كان موقع مدينة أور قد جرى تحديده منذ سنوات سابقة، بفضل التنقيبات الأساسية التي قام بها الدبلوماسي البريطاني “ج. ي. تايلور- J. E. Taylor” سنة 1853. مرت نحو سبعين سنة أخرى قبل أن تنطلق بعثة تنقيب رئيسة أخرى، للكشف عن المدينة الأثرية، إذ نظم المتحف البريطاني بالتعاون مع متحف “بين-Penn Museum “ التابع لجامعة بنسيلفانيا حملة تنقيب إختار لقيادتها الآثاري المخضرم “ليونارد وولي”. 
 كان وولي قد تدرب لدى متحف “آشموليان-Ashmolean Museum “ التابع لجامعة أوكسفورد، وعمل مساعدا لآرثر إيفانز (وهذا الأخير صنع شهرته بتنقيبه عن مدينة “كنوسوس” في كريت). كانت إحدى حفريات وولي الرئيسة الأولى أعمال تنقيب لموقع “كركميش” الحيثي القديم سنة 1912، وهو يقع اليوم داخل تركيا قرب الحدود السورية. وهناك ساعده “توماس أدوارد لورنس”؛ الذي عرف لاحقا بإسم: لورنس العرب.
واستمر العمل حتى أوقفته الحرب العالمية الأولى. خلال الأعمال العسكرية وظفت المخابرات البريطانية وولي في منطقة الشرق الأوسط؛ وهناك أمسكت به القوات التركية وإحتجزته لسنتين. قاد وولي بعد الحرب بعثة تنقيب في تل العمارنة بمصر (موقع عاصمة الفرعون أخناتون)؛ وهناك تلقى تكليف قيادة بعثة التنقيب في أور.  
“سلّم الى السماء”
ركز وولي (خلال المواسم الأربعة الأولى من التنقيب) في عمله على المنطقة المحيطة بالزقورة (أو- برج المعبد). أقيم ذلك البناء المدرج خلال حكم السلالة الثالثة لأور، نحو ألفي سنة قبل الميلاد. وهي كتلة ذات ثلاث طبقات مشيدة من الطابوق الطيني، على قمتها معبد آله القمر “نانا”؛ جرى تجديدها ثلاث مرات عبر تاريخها الطويل. ربط الآثاريون تلك الزقورة بالحاكم “أور- نمّو” الذي بنى العديد من الزقورات في مواقع أخرى بين النهرين.
ظهرت قطع صغيرة من الذهب أثناء تنقيب الفريق حول المعبد. ورغم إدراك وولي أن مقابر مليئة بالمزيد من النفائس لا بد أن تكون قريبة من موقع الحفريات؛ فقد رفض أن تنحدر بعثته الى مجرد بحث عن الكنوز؛ وواصل دراسة طبقات الموقع المختلفة بشكل منهجي تماشيا مع ممارسات التنقيب السليمة، بهدف إنشاء منظور زمني واضح. كان لوولي سبب آخر للإحتراس؛ فمنذ بدء الحفريات فُقِدت بعض اللقى الأثرية (خاصة الذهبية منها)، وكان الإفتراض أن السارقين من أعضاء فريق التنقيب. لذا كان عليه التأكد من سلامة محتويات المواقع، قبل الشروع بفتح المقابر؛ من السرقات ومن الإهمال أو قلة الخبرة بالعمل. كان يعرف أن أعضاء فريقه لا يمتلكون الخبرة الكافية ليعهد اليهم باللقى الدقيقة التي قد يجدها داخل مقابر لم تُفتح من قبل. وأخيرا، وبحلول سنة 1926، آمن وولي أنه وفريقه مستعدون للعمل؛ وأن الحفريات ستُستأنف. 
 
نساء في الموقع
حينما بدأت عمليات البحث عن المقابر، إنضم الى فريق العمل آثاري شاب يدعى “ماكس مالون- Max Mallowan”؛ وهو بدوره سيقابل زوجة المستقبل (الروائية الشهيرة أغاثا كريستي) في موقع حفريات أور. إعتادت كريستي على السفر الى المنطقة للقاء مالون؛ ثم تزوج الإثنان سنة 1930. تعرفت كريستي على وولي خلال تلك الزيارات، وتأثرت بالتعامل عن قرب مع التنقيبات الأثرية؛ لذا دارت الكثير من رواياتها وسط مواقع آثارية، خاصة روايتها الأشهر: “جريمة في وادي الرافدين” سنة 1936. أما “كاثرين كييلنغ” وهي ممرضة عسكرية وباحثة آثارية (صارت زوجة وولي لاحقا)، فقد عملت مع البعثة منذ البدء. إعتبر البعض عملها أمرا غير لائق؛ كونها المرأة الوحيدة في الموقع، وخشي رؤساء وولي أن يشتت وجودها الانتباه ويثير المشاكل. لكن وولي رد إعتراضاتهم وحرص على إستمرار عملها بتوثيق وحفظ اللقى المكتشفة. 
 
أغرب من الروايات
كشف وولي ومالون (خلال موسم حفريات سنوات 1926 - 1927) عن مئات القبور في مقبرة مدينة أور، لم يجدوا فيها بادئ الأمر سوى البقايا البشرية (وبضعة متعلقات جنائزية)؛ ولم يجدوا قطع الكنوز التي توقعوها. لكنهم حققوا كشفا متميزا قرب نهاية الموسم؛ إذ وجدوا (وسط بعض الأسلحة البرونزية) خنجرا ذهبيا ذا مقبض مرصع باللازورد، وبقربه مجموعة آلات موسيقية مصنوعة أيضا من الذهب. وهي لقى لم يسبق العثور على مثيلاتها (من حيث القيمة والنوعية الفنية) في موقع سومري قط. وكان سبب التميز إعتقاد علماء الآثار أن الرماح والفؤوس هي قطع الأسلحة المألوفة في أور، وليس الخناجر.
نصّت الكتابات المسمارية على بعض اللقى أن الفريق كشف عن قبر شخص يدعى “ميسكالامدوك- Meskalamdug”؛ الذي كان على الأرجح نبيلا غنيا (ويفترض البعض أنه كان ملكا!). سبب الكشف موجة حماسية بين العاملين؛ فقد بدا أنهم يستخرجون قطعا قيمة جديدة حيثما حفروا. وشعر وولي بالتوجس من انتشار شائعات عن كنوز مختبئة كثيرة، فقد كتب في يومياته أنه ذهب من فوره الى الزعيم القبلي المحلي “منشد بن حبيب” وطلب كلمته أن لا يمس الموقع أحد من العاملين بغياب وولي. يبدو أن ذلك الوعد صمد هنا؛ فلم يكن هناك دخول الى الموقع (خلال المواسم الثلاثة التالية) من دون موافقة وولي، ولم تُؤخذ أي من المكتشفات.  
إنتعشت التوقعات بعد العثور على حجرة منحوتة من الحجر تحت الأرض، وشك وولي أنه قبر شخصية ملكية. بإستمرار الحفر ظهر نفق يعود لحقبة لاحقة، يمتد من مستوى الأرض حتى سقف الحجرة تقريبا، وهي إشارة أن أحدهم (لعلهم لصوص) دخلوا الحجرة قبل قرون.. كانت خيبة أمل كبيرة للفريق؛ الذين أملوا أن يجدوا القبر غير منهوب.
 
قبر الملكة
استمر العمل، وكوفئت جهود وولي بإكتشاف الموقع “PG800” غير المنهوب سابقا.. توالت الاكتشافات بسرعة وحماسة؛ إذ عثر الفريق (في حفرة الموتى) على خمس جثث مزينة بمقتنياتهم داخل القبور، ترقد متجاورة على حصران القصب. وعلى مسافة بضع خطوات وجدوا عشر جثث أخرى لنساء يرتدين حليا من الذهب والأحجار الكريمة. حمل الموتى أيضا آلات موسيقية، وبقربهن  رفات لموسيقي يمسك بقيثارة مذهلة الجمال؛ مزينة بالعقيق واللازورد والصدف، وفي مقدمة هيكلها الخشبي رأس عجل من الذهب، عيناه ولحيته من اللازورد. 
كانت هناك بقايا عربة خشبية مزينة بالذهب والأحجار الكريمة والصدف، وتمائم لرؤوس منحوتة لإسود وثيران. أما الأعنة فمركبة على حلقات الفضة وفيها خيول ذهبية. وعلى الأرض؛ قرب العربة؛ كانت هناك هياكل عظمية لرجلين (يقودانها!) مع ثورين. ظهرت داخل القبر كنوز أخرى، مع إستمرار عملية الحفر؛ أسلحة وأدوات والعديد من أوعية البرونز والفضة والذهب واللازورد والمرمر.. وحتى طاولة للألعاب. ووسط الفضاء، كان هناك صندوق خشبي ضخم (سمي “راية أور”)، لعله كان لخزن الملابس والعطايا الأخرى (التي تفسخت منذ عهد بعيد)، مع مجموعة من التمائم على شكل رؤوس الأسود، وكؤوس من الفضة والحجر الأملس، سبك بعضها من الذهب والفضة. 
في حجرة الدفن ذاتها رقد جسم إمرأة فوق محفة جنائزية؛ وهي مغطاة بالتمائم ومجوهرات الذهب والأحجار الكريمة. يتألف طوق شعرها من عشرين ورقة ذهبية، وحبات اللازورد والعقيق ومشط ذهبي كبير. وبقربها ختم اسطواني عليه نقش تعرف بواسطته الآثاريون على هويتها: الملكة “بوآبي- Puabi” (التي أشار اليها وولي خطأ في ترجمه بإسم- شبعاد). لم يذكر الختم إسم زوجها؛ مما قاد البعض للإفتراض أنها كانت الملكة بذاتها. قرب قبر الملكة بوآبي، رقدت بقايا إثنتين من خادماتها، وإضافة لهما وكنوزها، كانت مواد التجميل؛ ومنها صندوق فضي لخزن الكحل الاسود. تحت الصندوق الثقيل، عثر المنقبون على حفرة نزلوا منها الى حجرة سفلية، ظهر بعد التنقيب أنها مرتبة على نحو مماثل للحجرة العليا؛ من حيث نمط الدفن وتوزيع الموتى. 
على المنحدر الذي يقود الى حجرة الدفن رقدت أجسام ستة جنود (مرتبة على شكل صفين)، وداخل الحجرة كانت هناك عربتان يجر كل منهما ثلاثة ثيران، وقربهما أجسام السائقين. وعند مؤخرة الحجرة رقدت بقايا تسع نساء (مرتديات ملابس فخمة) تستند رؤوسهن الى الجدار، وداخل حجرات مجاورة رقدت نساء أخريات وجنود مسلحون، إنتظمت بقاياهم ضمن صفوف مرتبة. 
 
ألغاز وأجوبة 
إستنتج وولي أن هذا القبر يعود للملكة “بوآبي” وزوجها؛ وأن الملك قد مات أولا ثم دفن في الحجرة السفلى. ويبدو أن العمال الذين نحتوا قبر الملكة؛ عندما ماتت، نهبوا القبر الأول، مخلفين حفرة حاولوا تغطيتها بالصندوق الثقيل. كانت كمية الكنوز المكتشفة هنا كبيرة، بحيث أن وولي حين عمد الى إبلاغ زملائه بمكتشفاته كتب برقياته باللغة اللاتينية؛ آملا أن يبقى السر آمنا عندما يكتبه بلغة صعبة! كشفت تنقيبات وولي جوانب من طقوس الدفن والجنائز (خاصة الملكية منها) في أور القديمة؛ وكان من أهم فقراتها- دفن أفراد من الحاشية مع الميت. 
أزاحت عمليات التنقيب والحفر أتربة بنحو 13 ألف متر مربع، وهبط الفريق الى عمق تجاوز 18 مترا. وقد نقّب وولي داخل 16 قبرا ملكيا، ونحو 600 قبر لأفراد الشعب؛ يعود بعضها لحقبة تمتد الى ما  بين 2300 و2600 سنة قبل الميلاد. كانت بعض القبور قد تعرضت لضرر لا يمكن إصلاحه بسبب حفريات سابقة. ولم تكن أسماء أصحاب القبور الملكية معروفة إلا مع حالتين هما: الملكة بوآبي (بسبب الختم الاسطواني في قبرها) والملك “أور- بابيسلاك، Ur-Pabilsag “ (الذي حكم خلال الفترة بين 2600 - 2450 ق.م تقريبا. ويرى بعض الباحثين أنه من الشخصيات المرسومة على صندوق “راية أور”). أما الملك “ميسكالامدوك- Meskalamdug” (وأولاده) فقد حكموا خلال سنوات 2450 - 2300 ق.م؛ ولم تحدد قبورهم بشكل منفصل.
 
• المصدر والصور: مانويل مولينا مارتوس- مجلة ناشيونال جيوغرافيك