بيته الضائع في ضباب شتاءات العالم

ثقافة شعبية 2024/10/10
...

 رياض النعماني


وكأنني بليل الديوانيَّة، وهو لا ينامُ من صوت بكاءٍ وحشيٍّ مرًّ يقطع القلب، والقلب نبتة طريَّة اقتلعت من الأرض، فصار صوت جذورها وهي تتقطعُ يقطر دماً، هذا الصوت - القلب هو علي الشباني... المدفون في أعماق شط الديوانيَّة، ووجعها الذي صار بيوتاً تنام ولا تنام على انطفاء حزنها الطويل.
لكنَّ الغريب أنَّ حزن مدينته المبكر والمنطفئ انفرد بالفتى علي ليُطلقَ فيه غضب جميع رعود سمائها، وبرقاً أشعل فيه حشداً من رايات وخيول وقصائد.. ظلَّ (علي) يرى فيها بيته الضائع في ضباب شتاءات العالم، ووطنه الذي يولد فيه كل يوم.. ويتحدى غضباً شرساً يهتز له جسده احتجاجاً عالياً يسابق فرسه التي أراد لها أنْ تقتحمَ أسوارَ قصرِ الخليفة الحاكم:
(هاي دنيا العشكت الهم،
والجتل،
وهم تظل دنياك مهره إمشرعبه... تغسل الريح
بكصايبها غسل
لو سبكها الريح غفله
ايظل رسنها بريح المثلجه
حجل)
لم يكن في نار جسده إلا التأجج، ورغبة المواجهة الباسلة:
(بوجه السلطان أصيحن لا
وأغني للحزن والشعر
والثورات
عشر مرات)
علي، كيانٌ كليٌّ ينطوي على طبيعة استثنائيَّة يتعدد فيها صوته وينفرد، تُخطئ كل قراءة تراه من ضفة واحدة، أو تأتي إليه من تصور يرى الى شعره على أنه غنائي، أحادي، منفرد، معزول، ففي علي تكوين تاريخي، واعٍ لمعنى الوجود والحياة، والشعر عمق دفء همس العروس، وساقية غناء تغفو على هطول ضوء الفجر، وهو يهمي خفيفاً ليبلل ماء الروح العذبة:
و(يرش الهوى الحزنان)
صوتٌ غضوبٌ يتأججُ ويطوحُ بجسده بحركات إيقاعيَّة لا إراديَّة مشدودة، تتجلى حتى في كلامه العادي، حيث يحرك يديه ووجهه وبقيَّة أعضاء جسده بحماسة عالية، وحنان أمٍ باذخٍ.
علي مملوءٌ بنعومة ظلال أمه وبيته، وصداقات تبدَّت دفئاً غامراً في كل ما كان يقول ويكتب، فالدفء لا يفارقه حتى في حماسته المتدفقة كنهر مدينته، لكأنَّ هذا النهر قد أخذه جانباً ليسقيه بعذب مائه
الحلو.
الوعي العميق هو إحدى فضائل علي، وجيله الشعري الذي واصل بعد الشاعر مظفر النواب تيار الحداثة والتجديد في القصيدة العاميَّة العراقيَّة، لذا فكان هو و(طارق ياسين الأبرع تجديداً) وعزيز السماوي وشاكر السماوي وكاظم الركابي وحامد العبيدي وأبو سرحان ويعرب الزبيدي، وهم الأهم شعرياً في جيل نهاية الستينيات والسبعينيات يؤكدون باستمرار الأهميَّة الحاسمة للثقافة في العمليَّة الإبداعيَّة؛ لأنها هي من يجعل القصيدة فعلاً إلهامياً يبتكر الأفق الجديد والمستقبل المضيء للنص الشعري الخلاق. وهي من يبدع اللغة الشعريَّة الحيَّة والعالية فنياً، والشعر أصلاً هو فعاليَّة أو نشاط إبداعي تنجزه اللغة.
كان توجههم الثقافي وموقفهم هذا قد أنقذهم من ورطة التأثر بمظفر الذي كان محيطاً شعرياً وذروة عالية، وكانوا على حقٍ وصوابٍ تامٍّ في موقفهم هذا وتصورهم لمستقبل القصيدة بدون الوعي اللازم، إذ شهدنا ورأينا - باستثناءات بعض الشباب الرائعين الذين يواصلون ويصرون على كتابة النص الحديث المتطور - كيف أثَّر شعراء آخرون عاصروهم، لكنهم لم يتوفروا على وعيٍ كافٍ ولم يولوا ثقافة الشاعر أهميَّة حاسمة فكانت النتيجة الفاجعة، جيلٌ أميٌّ فقيرٌ
إبداعياً لا يرى في القصيدة إلا كلاماً متراكماً، مكروراً يدرجُ في الشارع والمضايف من دون يقظة تنقذه وتشذبه من غبار وحشرات وتراب واستعمالات لغويَّة هذا الشارع.
جيل الصراخ والهستيريا والزعيق - مع احترامي الجم لهم كأناس - والذي يكتب بالصراخ المهدد الحاد يسود منذ أيام الدكتاتور وحتى اليوم نشاهده وهو يسودُ ويسدُّ الشاشات ببرامج وكلامٍ عادي جداً يحتفل به ويهلل له مقدمو برامج الكلمة الواحدة (الله الله).
إنَّ خطورة هذه الموجة الأميَّة الصاخبة من الكتابة إنها تعزز ذوقياً الانتكاسة التي كانت أيام صدام والتي نراها اليوم تتجلى في وعيٍ عنفي لمفهوم يعتقد أنَّ القصيدة ينبغي أنْ تنقذ كيانها من فعل الثقافة، وتبقي تدرج مع مستوى الوعي العام والذائقة السائدة للناس والشارع.
وعلي، شاعرٌ شجاعٌ الى أبعد حدود الشجاعة، غير هيابٍ ببطش السلطة، إذ ظلَّ يحرضُ حياتنا ويبنيها شعرياً بطاقة الجمال والمعرفة ومعنى المقاومة، والفعل المعترض، إذ كان يقوم بإعداد عددٍ من الشباب للذهاب الى كردستان والقتال من هناك ويسهر على توديعهم من بيته الى
هناك.
آسف لأنني الآن خارج العراق وليس معي دواوين علي كي تكون كتابتي معززة بشواهد تطبيقيَّة مهمة لهذه الكتابة.