سلام إبراهيم
يعدُّ الشاعر العامي علي الشباني، من مجددي القصيدة العاميَّة العراقيَّة جيل ما بعد مظفر النواب، ويعدُّ أحد ثلاثة أعمدة شعريَّة هم، المرحوم الشاعر عزيز السماوي، والمرحوم الشاعر طارق ياسين أضافوا للقصيدة العراقيَّة ورسخوا تطورها بكتابة قصائد ملحميَّة، حاورت الذات والتاريخ العراقي والتجربة السياسيَّة الدمويَّة في النصف الثاني من القرن العشرين التي آلت إلى حروبٍ ما زالت
مستمرة.
ولا يعرف عن الشعراء الثلاثة كتابة الأشكال الشعريَّة القديمة كالموال والأبوذيَّة والدارمي، ما عدا ما كان صديقنا المرحوم عزيز السماوي يقرأه في سهرنا الليلي في سبعينيات القرن الماضي. وعندما سألته أخبرني، أنه بدأ أصلاً بكتابة الموال والدارمي والقصيدة الكلاسيكيَّة. أما علي الشباني فقد أخفى الأمر تماماً، ولم يتطرق طوال علاقتي به إلى هذه القضيَّة رغم أنَّ علاقتي تمتد منذ أواخر الستينيات حينما أطلق سراحه من سجن الحلة. وكنا في محلتنا الصغيرة (حي العصري) بالديوانيَّة نتداول أشعاره المكتوبة في سجن الحلة استنساخاً، ونردد قصائد غزله التي تشبه وقتها القصيدة العاميَّة التقليديَّة. وأثناء تسكعنا في ليالي المدينة طرقت باب هذه القصائد التي كنت أحفظ بعضها، لكنّ علي أنكر أنه كاتبها أول الأمر، فقد خرج من السجن بقصيدة (خسارة) الملحميَّة الطويلة، والشهيرة جداً والتي مطلعها
يقول:
جرح المودع النده..
شوغة الليل.. وبواچي العافيَّة
أورد للصبح
طافح بحزنه الملح
يحچي موت الخوف
تاه.. وتاهت الدنيَّة، وعبرنه الشوف
يدنيَّة الخوف..
سولف الصبير بدموع الشمس
چذاب الضوة، ولميت روحي بلا نفَس
والتي قرأها بمهرجان الشعر الشعبي الأول في الناصريَّة عام 1969 وكان لها صدى كبيرٌ، وما زالت من القمم الشعريَّة الصعبة البلوغ. وقتها وهو الشاعر المثقف العارف يدرك ما أتى به من تجديدٍ شعريٍ ببنية قصيدة ملحميَّة مفتوحة لا تتقيد بالقافية تشبه القصيدة السيابيَّة في فعلها بالشعر العربي الفصيح، كان يود محو بداياته، فكان محقاً من ناحية الإبهار والدهشة التي أتت بها قصائده التي جاءت قويَّة عميقة استثمرت تجديد مظفر النواب وارتقت ببنية القصيدة وبثيمات جديدة مختلفة عبرت عن عصرها وتنبأت باكراً بأفول المد اليساري وخسارته في التجربة السياسيَّة العراقيَّة.
لكنه غير محقٍ من وجهة نظري الخاصة، فدارس أشعاره سيجد فجوة، فالتطور الذي بلغته قصيدته من المستحيل أنْ يكون هكذا من أول كتابة، فدارس أشعار علي الشباني سيجد تواريخها المذيلة لا تذهب أبعد من عام 1967 بينما كان علي يكتب القصيدة والموال والدارمي كما سيتبين لاحقاً في مقالنا هذا منذ صباه وقبل دخوله السجن، وفي السجن الذي دخله في 1963 عدا أنَّ الخبرة والإحساس بالمفردة وبنية القصيدة تنمُّ عن معرفة عميقة وإحساسٍ متفردٍ تبلور بدراسة الأشكال الشعريَّة التقليديَّة والقصيدة التقليديَّة
أيضاً.
وكذلك تنمُّ قصيدة الشباني عن حرفيَّة شديدة الوثوق لنقرأ هذا المقطع المذيل عام 1972 من قصيدته (الحرف چتال) والتي قرأها في جامع الحاچم بنفس العام بأربعينيَّة الشاعر العامي الجميل لطيف حسين معلم الرياضة الذي قتل بحادث
سير:
أموتن غبشة ثوبي تراب
عشب روحي صبر ع الباب
أموتن سكته گلبي كتاب
واليقره الگلب يعمه
* * *
ياريتك تخلصني الحزن مثل الخبز.. مثل القميص
الشمس مثل الناس، من يثگل حزنها بروحي،
وأسكت هم
يا ريتك تعتني من السما للماي
وانبت طير فوگ الدم