فلسفة اللاعنف

منصة 2024/10/16
...

 ميادة سفر

في الوقت الذي عمّ فيه العنف أرجاء الأرض، وعلت أصوات الرصاص والقنابل، تراجعت أعداد أولئك المطالبين باللاعنف سبيلاً، أمام الشعوب والدول لنيل حقوقها ورفع الظلم عنها، لأن الدول العظمى التي تمتلك الأسلحة الأكثر فتكاً هي من تتحكم بالأرض بحيث لم يعد لتلك الصغيرة المضطهدة، إلا أن تحتفظ بدورها كحلقة أضعف تتلقى اللكمات والضربات راضية مرضية، فلا أصوات المناهضين للحرب مسموعة، ولا منظمات حقوق الإنسان حاضرة، وحده القتل والدمار السمة الأبرز للبشرية، بالرغم مما يترتب عليه من عنف متزايد لا يولد إلا مزيداً من الكراهية والحقد.
يرى البعض أنّ فلسفة اللاعنف لا تعدو كونها ترفاً يُحكى عنه في اللقاءات ويطالب به المثقفون الذين يقطنون في برج عاج، وأولئك الذين لا هموم لديهم ولا أحسّوا يوماً بالظلم والقهر، إلا أنّ الوقائع تنفي تلك الادعاءات إذا ما عدنا إلى التاريخ، الذي حفظ لنا بعض الأسماء التي عانت من الظلم والاستعباد وتمكنت أخيراً من نيل مطالبها بلا عنف ولا رصاصات أو بنادق إلا من الطرف الآخر، ها هو المهاتما غاندي الرجل، الذي ما زالت الهند تمجد ذكراه حتى يومنا هذا والذي تربع على عرش اللاعنف وسياسة السلام عقوداً طويلة، تاركاً دروساً كثيرة لمن أراد أن يتعلم ويحفظ ما بقي من إنسانيتنا، ليظهر في مقلب آخر رجل من الأمريكيين السود، الذين ولدوا في ظل العبودية منتهجاً اللاعنف طريقاً إنه مارتن لوثر كينغ، فضلاً عن الكثير من الأسماء التي يمكن الاستفادة من تجربتها والعمل عليها لاسيما في هذي البقعة من العالم التي ابتليت منذ بداية التاريخ بالحروب والقتل والدمار، وقد آن لها أن تنهض وتخلع عنها ذلك الثوب، علها تعيش وتنعم ببعض السلام والأمان.
يعتبر البعض أن فلسفة اللاعنف لا يمكنها تحقيق مطالب الشعوب وآمالها، سيما وأنه طريق طويل وشائك في بعض الأحيان، ويحتاج إلى كثير من الصبر والأناة والتحمل والتفكير بطرق أخرى مختلفة عن تلك المعتادة والرائجة، فضلاً عن الترفع عن كل ما هو شخصي وذاتي والإيمان بأحقية كل الشعوب بالحرية والتحرر ورفع شعار السلام العالمي للإنسانية جمعاء، وهو ما قد لا يحتمله البعض الذي يريد نيل مطالبه بأقصى سرعة، علماً أن العنف لم يثبت يوماً نجاعته وقدرته على إحقاق الحق، إذ غالباً ما يقرر المنتصر أو الأكثر قوة الشكل النهائي للأحداث والدول والمجتمعات.
وفي ظل التطور الهائل والمخيف في صناعة السلاح، والمنافسة المتزايدة بين الدول لفرض هيمنتها واستعراض قوتها، يغدو الحديث عن اللاعنف حلماً صعب التحقق، لاسيما في منطقتنا العربية التي حظيت بحصة الأسد من الحروب والقتل والعنف والدمار والتشرد، عنف توارثته الأجيال لقرون طويلة وكأنه ينتقل بالجينات بين شعوب هذه البقعة من الأرض، تعززه وتدفع به الكثير من الدول العظمى التي تحكمها مصالحها وسياستها، لا سيما أننا ابتلينا بكيان يقتات على الدماء، زرعته دول أرادت إنهاء حروبها العالمية فكان أن نقلتها إلينا بلا أي رادع إنساني أو أخلاقي، وما زالت تلك الدول تدعم وتؤيد آلة القتل والتدمير حيناً ومتفرجة حيناً آخر، لتلك القوافل من البشر التي تحولت إما إلى أشلاء أو مشردين على قارعة الطريق.
إنّ العنف يدمر كرامة الإنسان وينتهك إنسانيته ولأن "الإنسانية كرامة" على حد قول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، علينا أن ننبذ العنف الذي يغتصبها، ونرفض كل ما يبرر العنف ويبني عليه، علينا أن نخرج من تلك الأيديولوجيا التي تنظر للشخص العنيف على أنه بطل ورمز وذو قيمة كبيرة، على كل شعوب العالم أن تنفي عن العنف الشرعية وترفض اعتباره أحد حقوق الإنسان، وبقدر ما نتمكن من ذلك نكون على الطريق الصحيح لنشر ثقافة وفلسفة اللاعنف، التي ستحافظ على ما بقي من إنسانية في هذا العالم الملطخ بالدماء.