د. سعد عزيز عبد الصاحب
يوظف المخرج الايمائي منعم سعيد مصطلح "الهجنة" في الأساليب والأنماط الحركية الشرقية لتوليد جماليات عرضه الموسوم "تحولات الأحياء والأشياء" سيناريو المسرحي الراحل قاسم محمد، فهو يأخذ وينتقي من أسلوب النو والكابوكي الياباني وأسلوب البوتو الاسيوي وفواعل "البايوـ ميكانيك" والمسرح الأسود والمولوي الإسلامي وحركات اللطم العراقي لانتاج إطار حركي أو نسق سمعي ـ بصري شرقي بامتياز بأداءات تمثيلية لا تذهب مطلقا إلى المدرسة التقمصية والنفسية، إنما تنفتح على أداءات وصياغات ما بعد الدراما بفواعلها التقديمية واللعبية وتجلياتها الطقسية.
هذا النوع من الأداء الحداثي المعاصر الذي اتكأت عليه حكاية العرض منطلقة من لعب صانعي الدمى وهم يشكلون دماهم كيفما يرغبون ويقيدونها بقيود لا نهائية تكبح جماح نشاطهم الحركي وتقيد حريتهم وانطلاقهم كأنها اغلال تأريخية تنوء بفعل القسر والكبت والاضمار، تتمرد الدمى على صانعيها محاولة أن تخرج إلى العالم الواسع الفسيح بافتراض أنسنتها وتحولها إلى شكل بشريّ، الدمى تخرج من شرانقها ممزقة كل تأريخ القسر والقهر والاستعباد القديم مهددة وجود صانعها لتطرده من الزمان والمكان لتحل محله وتنشق على أبوية الأب الأصلي والخالق الأول هاربة من بيت الطفولة الأول بيت الدمى، تغوي الدمى بعضها محاولة الولوج وكشف العالم الإنساني الجديد، فهي قد تحولت إلى بشر وها هي تعطس الآن بملء فمها وتنطق وتتكلم لتذهب جميعها في رحلة بحرية وبقارب ينوء بفعل الأنواء والرياح متآلفة جذلى وما هي إلا لحظات واذا بصوت طائرة حربية يشق صمت المكان وصواريخ نارية تقصف قارب الدمى وبمشهد تساقطت فيه الدمى من عليائها لتعود أدراجها مخذولة محنية الرأس والجسد، لشد ما طمحت هذه الدمى لتتحول إلى إنسان من لحم ودم. وها هي عندما تحولت وتأنسنت لم تجد الراحة والسلام مع الوجود البشريّ، فتقرر العودة لشكلها الأول وجبلتها الأولى وأعادت قيودها إليها ورجعت إلى بيت الدمى الأليف، لتدخل في صراع دام مع بعضها وكأنها تنال لعنة مغادرة المكان والوطن منقادة إلى ما تقرره سلطة الصانع وإرادته ومركزيته التي لا فرار منها ولا محيص.
ربما تبدو هذه المسرحية الايمائية في اطارها السرد ـ بصري العام متناصة ومتحايثة مع مسرحيات "بجماليون- لبرناردشو" أو "ديانا والمثال- لبيراندللو" في ثيمة خلق الصانع للتمثال وتمرده عليه وانشقاقه على إرادته، جاءت قراءة المخرج منعم سعيد البصرية والسمعية لنص قاسم محمد البصري تحاول أن تقترب من انتاج رؤية عراقية الجذور والمآلات مستنبطة من المثولوجيا والتراث الموسيقي العراقي القديم بالمقامات والمواويل الجنوبية وترانيم البحارة البصرية، واللعب على ايقاعاتها بصبر ومرونة وأناة وطول نفس بتشكيلات وتكوينات نحتية بارزة أثثت فضاء العرض بأشكال جمالية متنوعة، لتغيب الدمى المتحركة والمقيدة في غياهب المسرح الأسود وهي تسافر في حلم يقظة يقوم به الصانع أو خالق الدمى في سؤال إشكالي مفاده: ماذا لو افتكت هذه الدمى قيودها وتحولت إلى بشر؟ ماذا يمكن أن تصنع وإلى أين يمكنها الذهاب؟
من منطلقات هذا السؤال التبريري الذي سوغ الانفتاح على تقنية المسرح الاسود تشكل ضوء العرض وانتقالاته بفواعل الفنان عباس قاسم بالاشتغال الذكي للأشعة فوق البنفسجية مولدة مع الدمى اشكالا غرائبية مشوهة وسطوعا بارزا للون الأبيض في ظل حلكة دامسة جسدت فيها الدمى المتمردة حلم الصانع ابلغ تجسيد، وجاءت أزياء الدمى واكسسواراتها متنوعة ومختلفة في طرازها وأشكالها موحدة باللون الأبيض لكن تمايزها في التصميم اعطاها رونقا وبهاء بسحنات غرائبية وغروتسكية عجيبة أعلت من القيمة الجمالية للعرض وهي من تصميم وتنفيذ الفنانة متنوعة المواهب ندى طالب والموسيقى والمؤثرات التصويرية بتجليات صوتية عراقية خالصة شدت من ايقاع العرض وساهمت ميلودياتها في التصعيد الحركي والايقاعي لشخوص الدمى مع الفضاء اللعبي فوق خشبة المسرح الوطني في بغداد بانتقاءات واختيارات وتنفيذ الفنان همام حسن وتجسيد حركي بارع لممثلين وممثلات شابات يصعدن لأول مرة على خشبة المسرح فتحية من القلب لـ "مجتبى حيدر وميرا مختار والميامين ليث وسجاد احمد واحمد كريم وزينب اسماعيل وحسن أمين وسماح سعد وكرار حيدر وليث محمد" ودراما تورجيا الفنان زيدون داخل يقف خلف هذه اللوحة الإبداعية المربي الفاضل الفنان منعم سعيد آخر ما تبقى من رعيل المسرح الايمائي الأول في العراق.