تحديد مكان قارة زيلانديا المفقودة

بانوراما 2024/10/20
...

 ليز كروسي
 ترجمة: شيماء ميران


بعد سنوات من البحث والاستكشاف أكمل العلماء رسم خريطة القارة الغارقة تحت مياه جنوب المحيط الهادئ. وتعرف هذه الكتلة من القشرة القارية التي دفعت منذ ملايين السنين إلى أعماق المحيط باسم "زيلانديا"، أو بالاسم الماوري "تي ريو آماوي". يقع هذا الجزء الكبير من القارة المغمورة بين قارتي استراليا و(أنتاركتيكا) القطبية الجنوبية، إذ كانت تربط كتل القشرة الأرضية كجزء من قارة عظمى منذ ما يقرب من 300 مليون سنة.
تمكن الجيولوجيون من خلال جمع عينات صخرية واستخدام خرائط مغناطيسية من الكشف عن حدود "زيلانديا" الموجودة تحت المياه المحيطة بجزيرة نيوزيلندا. فقد كشف الجيولوجي "نيك مورتيمر" وزملاؤه قبل سبع سنوات عن وجود قارة مغمورة تحت المياه، ثم رسموا خريطة الجزء الجنوبي لها في العام 2021.
وبحسب الدراسة المنشورة حديثاً في مجلة " Tectonics- تكتونيكس" فقد أنهى العلماء رسم خريطة القارة بأكملها. ويوضح "مورتيمر"، الذي يعمل في مؤسسة الأبحاث النيوزيلندية "GNS Science"، أن مساحتها تبلغ نحو خمسة ملايين كيلو متر مربع، ويقول: "لقد وضعنا زيلانديا على الخريطة".
يشير الجيولوجي "جيمس سكوت"، من جامعة أوتاغو في نيوزيلندا إلى أن: "الدراسة الجديدة توضح أن نيوزيلندا ليست مجرد جزيرتين، بل في الواقع هي قارة كبيرة مساحتها بحجم نصف حجم استراليا تقريباً، ومعظمها مغمور تحت الماء".
توضح الجيولوجية "ماريا سيتون"، من جامعة سيدني، أن "زيلانديا" هي جزء مفقود من القشرة القارية، وكأنها قطعة من الألغاز بين القارات الأخرى القريبة منها مثل القارة القطبية الجنوبية وأستراليا، ما سيسمح للجيولوجيين بدراسة كيفية تشكلها وانفصالها عن الكتل الأرضية القريبة في التاريخ الجيولوجي.
واليوم، بعد رسم حدود الكتلة المختفية من القشرة الأرضية، يمكن للعلماء البدء بالكشف أولا عن كيفية وسبب تشكلها، والإجابة عن أسئلة لها أثرها أبعد من حدود القارة.
يحمل "مورتيمر" صخرة رمادية منقطة من الغرانيت بحجم قبضة اليد، استخرجها الفريق في رحلته إلى شمال "زيلانديا" عام 2016. إذ استخرج الباحثون في رحلتهم الاستكشافية على متن سفينة "إنفستغيتر" الأسترالية مئات الكيلوغرامات من الغرانيت وعينات رسوبية في موقع "فيرواي ريدج" من القارة
المغمورة.

السر في الزارغون
السبب وراء البحث عن هذه المعادن؛ لأن بنيتها البلورية تحتوي على ساعة جيولوجية، إذ يشير "مورتيمر" إلى أنه من خلال مقارنة تلك البلورات بصخور مدروسة مسبقاً من نيوزيلندا تمكن العلماء من معرفة أي الكتل الأرضية التي تكونت معاً، وبوجود ما يكفي من العينات، يمكن استخدام بلوراتها الصغيرة بطول ثلث مليمتر تقريباً في رسم حدود زيلانديا
الجيولوجية.
تتحدث "روز تيرنبول"، عالمة الجيولوجيا والمشاركة في الدراسة الجديدة، عن تشكل مادة "الزارغون" بعد مرور الحمم البركانية بفترة البرودة والتصلب، وتضم في تركيبتها الكيميائية عنصر "اليورانيوم" المشع: "ما إن يتبلور اليورانيوم يبدأ بالتحلل وتتحول ذراته إلى رصاص تدريجياً، ومن خلال قياس نسبة الذرتين في الزارغون، تمكن العلماء من تحديد المدة التي تشكلت خلالها
القارة".
تعود المادة المنصهرة في الغرانيت المستخرج من زيلانديا إلى مئة مليون سنة تقريباً، وهو ما يتماشى مع تفكك القارة العملاقة
السابقة.
تخيل أنك حين تعمل ثقوباً في قطعة قماش وتغطي بها تمثالاً، فإن الثقوب ستكشف أجزاء من المعلومات حول التمثال، وكذلك العينات المأخوذة من زيلانديا، لكنها لا يمكن أن تعطيك فكرة شاملة عنها. تقول "سيتون": "عندما نذهب لجمع العينات تكون كأنها وخزات إبرة، نحن بحاجة إلى طرق أخرى للمحاولة وربط
النقاط".
استخدم الفريق خرائط مغناطيسية للحصول على صورة مكتملة أكثر، حتى أن الباحثين تمكنوا من اكتشاف شذوذ المجال المغناطيسي باستخدام أجهزة الاستشعار الموجودة على متن السفن والتي تدور في الفضاء والمتمركزة على الأرض. وبحث "مورتيمر" وزملاؤه عن صخور ذات مغناطيسية عالية تميل إلى أن تكون من البازلت الذي تصلب من نشاط بركاني سابق، ثم رسموا خرائط لهذا التنوع
المغناطيسي.                                                                                              
وكما يعطيك القماش الذي يغطي التمثال حدساً عن شكله، فإن هذه الخرائط أيضاً تُعطي حدساً عن "زيلانديا".
يوضح "مورتيمر" أن العلماء سرعان ما لاحظوا أن هذه الصخور المستخرجة من المناطق البركانية الغنية لم يكن ترتيبها عشوائياً، بل كانت إما موازية أو متعامدة مع التصدعات العميقة في القشرة المحيطية الصلبة وهي النقاط التي تتباعد فيها القارات، مبيناً: "أن هذه النقاط تبدو مرتبطة بتمدد قشرة شبه قارة غوندوانا، قبل انفصال
زيلانديا والقارة القطبية الجنوبية وأستراليا مباشرة".

اللغز القاري
تعلم الباحثون على مدى عقود أن القشرة القارية للأرض تتطور عبر فترات زمنية طويلة. فهي تتبع دورة عامة، إذ تنضغط كتلة الأرض كقارة عظمى، ثم تنقسم إلى قارات أصغر، ثم تتجمع معاً مرة ثانية، وتستمر الدورة عبر مئات الملايين من السنين. ويعتقد العلماء أن القارات ستندمج معاً مرة أخرى بعد ما يقرب من 250 مليون سنة من الآن.
كانت القارة العملاقة "بانجيا" منذ ما يقرب من 300 إلى 250 مليون سنة، مكونة من جزأين صغيرين، الجنوبي وهو "جوندوانا" والشمالي "لوراسيا"، وبدأت بالتباعد عن بعضها البعض قبل 200 مليون سنة.  تقول "سيتون": "إن ما يحدث عندما تنفصلان هو تشكل حدود صفائح جديدة، ونحصل على جزأين من القارة ينفصلان عن بعضهما البعض، ما يؤدي إلى تمدد القشرة القارية ويجعلها أرق".
كان هناك صدع داخل "غوندوانا" قبل مئة مليون سنة وهو مكان التقاء "زيلانديا" الحالية مع القارة القطبية الجنوبية واستراليا، ما أثار موجة من النشاط البركاني. يبين "مورتيمر" أن ذلك عمل على تسخين القشرة الأرضية الممتدة مثل البيتزا حتى ستين مليون سنة مضت تقريباً.
يوضح "مورتيمر": "ما إن بدأت المنطقة تبرد، وأصبحت "زيلانديا" أكثر كثافة غرقت في المحيط، وبقيت مغمورة بالكامل منذ 25 مليون سنة تقريباً. واليوم، لا يبرز منها فوق سطح الماء سوى خمسة بالمئة من اجمالي القارة، والتي تشمل جزر نيوزيلندا وكاليدونيا الجديدة وبعض الجزر الأسترالية. ولا يزال الجزء الشمالي منها متصلاً باستراليا بينما الجزء الجنوبي مرتبط بقوة بالقارة القطبية الجنوبية، ولمعرفة المزيد من التاريخ الجيولوجي سيتطلب المزيد من العينات والتحليلات الإضافية. تشير "سيتون" إلى أن الباحثين جمعوا أكثر من خمسين عينة عام 2019 ومازالوا يمشطون البيانات.
يقول "سكوت": "إذا نظرت اليوم إلى زيلانديا ستجدها وكأنها صورة ضبابية، ومع جمع المزيد من العينات، تتضح الصورة أكثر. وأخيراً، انكشفت الصورة لكنها موجودة تحت كيلومتر واحد من الماء فقط".

عن موقع مجلة ناشينال جيوغرافيك