كاظم غيلان
يقف الشاعر وحده عند حافة كون يضج بالخيبات والانكسارات، بالخيانات والمؤامرات، ليس سوى الشعر الذي يتأجج بداخله، ليؤجج روحه صارخا محتجا عما يحصل في كونه من انهيارات، أطفال يشردون وأمهات ثكلى وبيوت تهدمها آخر ابتكارات الجريمة والتوحش من صواريخ عابرة لقارات القتل وطائرات محملة ببراميل حارقة خارقة، يبحث عن غصن أمل لعله يعينه في صرخته، يتشبث بما يسعفه ليؤنسه في ذروة وحشته ولو على طريقة أبي نؤاس : " وداوني بالتي كانت هي الداء" .. إنه يبحث عن قدحة أمل تبدد مشهد اليأس.
كتب كريم محمد حمزة الشاعر العامي المجدد والمثقف قصيدته ( صحوة حلم ) أثر انتكاسة حزيران 1967 :
" وجه الله بمزار ابعيد
ضاعت لهفة الزوار بدروبه
ولفت عنده حمامة دوح
رجع للغمد تاريخ سيف المعركه المجروح
وافرح من يجيك الموت
كلشي ايصير الك مسموح "
عند حافة لنهاية حياة الإنسان تنبثق صرخة استغاثة شاعر لتكون هي سلاحه الأوحد بمجابهة نذالة العالم وعهره، حيث يتفرج بكل وقاحة على ماتتناقله الفضائيات من جرائم عصر الحداثة، بينما تتزايد برقيات الشجب والاستنكار
والادانة!
للخيبة نتاجها الذي يؤرخ لكل ماجرى ويجري في قاموس الشاعر، هذا المجرد والمتجرد من كل الأسلحة الاوتوماتيكية والجرثومية والنووية، فهو أحد ضحاياها، الباحث عن ملاذ آمن يحميه من رصاص أعداء إنسانيته الذين يحاولون قتله وتمزيق تلك الوريقة التي يكتب بها أبياتاً من الشعر، دون أن يعرفوا بأنها عدة دوائه الوحيدة وهو المصاب بدوار وصداع وغثيان، هو الأعزل الذي يحاول أن يبصق ويتقيأ بوجه أنظمة القتل والاحتلالات، وإلا فكيف يفرح بموته القادم لأنه يسمح له بممارسة كل المحظورات ولكن عند آخر لحظة في حياته؟
هذه القصيدة اصطفت لجانب قصائد شعراء آخرين أصدروا مجموعتهم المشتركة ( قصائد للمعركة ) عقب تلك النكسة. إنها واحدة من أدوية مقاومة انكسارهم وخيبتهم، ولعل معظم النتاج الإبداعي العربي حمل مضامين جديدة كواحدة من ردات الفعل الوجودي الإنساني الذي يعالج عبر تاريخيته واحدة من هزائم وانكسارات توالت، ولعلها واحدة من أسلحة نادرة لم تمتهن القتل بوصفها معينا للبقاء المتأمل والشاهد على قبح العالم وزيفه
وجرائمه .
إنه دواء الشاعر المتبقي، القصيدة وفقط .