طائرات تجسس بريطانيَّة فوق غزة
حمزة يوسف وفيل ميللر
ترجمة: مي اسماعيل
يخشى ناشطون من أن تكون القوات البريطانية قد تلقت معلومات استخباراتية من الكيان الصهيوني تم الحصول عليها من خلال تعذيب المُعتقلين الفلسطينيين.. وحذّرت جماعات حقوق الانسان من أنه سيكون لتعذيب المعتقلين الفلسطينيين تبعات وخيمة على التعاون الاستخباراتي البريطاني مع تل أبيب. ويأتي ذلك بعد أن علّق رئيس الوزراء البريطاني “كير ستارمر” بعض صادرات الاسلحة إلى “إسرائيل”، بعد ما وصفته الحكومة بأنه جزئي بسبب..” إساءة معاملة المعتقلين”.
ورغم ذلك تستمر طلعات طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني للمراقبة بشكل يومي تقريبا فوق غزة، لتساعد القوات “الإسرائيلية” على تحديد مواقع الأسرى المحتجزين لدى حركة حماس. ويخشى المحتجون على الحرب أن تكون مسارات تلك الطلعات الجوية البريطانية مستقاة من معلومات انتزعتها أجهزة الأمن “الإسرائيلية” من الفلسطينيين المحتجزين عبر التعذيب. جمع موقع “دي كلاسيفايد-DECLASSIFED” البريطاني شهادة ثلاثة مدنيين فلسطينيين قالوا إن قواتٍ “إسرائيلية” استجوبتهم تحت طائلة التعذيب الشديد حول موقع الأسرى والانفاق. لكنْ تبادل مثل هذه المعلومات الاستخباراتية مع بريطانيا يُعدُّ انتهاكا للقواعد الموضوعة لمنع تكرار فضيحة التسليم الاستثنائي؛ والتي شهدت تواطؤ جهاز المخابرات البريطاني “MI6” مع انتهاكات وكالة المخابرات المركزية الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001.
تُمثّل “ شارلوت أندروز- بريسكوي” (المحامية في “شبكة العمل القانوني” العالمية) منظمة “الحق- Al-Haq” الفلسطينية لحقوق الإنسان في دعواها القضائية لوقف صادرات الأسلحة البريطانية إلى تل ابيب. تقول شارلوت: “من وجهة نظرنا من المحتمل، بل والمُرجّح، إن تلك المعلومات والضمانات التي تعطيها “إسرائيل” لبريطانيا تستند على معلومات منتُزعة بالتعذيب”. كما عبّرت مؤسسة “الحرية من التعذيب-Freedom from Torture” الخيرية الطبية البريطانية عن القلق حول الموضوع؛ مُعلّقةٍ: “يجب على بريطانيا أن تتخذ كل ما بوسعها من خطوات لضمان أنها لا تتلقى أو تستخدم معلومات استخبارية تقدمها أية سلطة يكون فيها أي خطر حقيقي، لكونها مُنتزعة تحت التهديد أو أي سوء معاملة”.
تجنبت وزارة الدفاع البريطانية الرد على أسئلة موقع دي كلاسيفايد، فيما إذا كان سلاح الجو البريطاني قد تحرك في مراقبته الجوية لغزة وفق معلوماتٍ استخبارية “إسرائيلية” قد تكون انتُزِعت تحت التعذيب لفلسطينيين. وقال متحدث حكومي بريطاني: “يبقى اهتمامنا مُنصبّا على تحقيق وقف اطلاق نار فوري وإطلاق جميع المُحتجزين، وزيادة سريعة للمساعدات الانسانية الى غزة، والالتزام بالقانون الانساني الدولي”. بينما قالت وزارة الدفاع “الإسرائيلية” أنه لا يمكنها التعليق على سؤال حول تقاسُم الاستخبارات مع سلاح الجو البريطاني.
جمع المعلومات
المحاولة البريطانية للبحث عن الأسرى المحتجزين لدى حركة حماس في غزة، قد تضع مسؤولي سلاح الجو البريطاني وسط موقف مُحرِج، إذ كانوا يتلقون معلوماتٍ استخباراتية من تل أبيب. والحكومة البريطانية على علم بشهادات مروّعة جرى تقديمها إلى المحكمة العليا بلندن؛ وقد وصف فيها المسعفون الفلسطينيون إساءة معاملتهم أثناء وجودهم تحت الاعتقال “الإسرائيلي”. جمعت منظمة “الحق” تلك البيانات الموقعة كجزء من قضيتها القانونية البارزة ضد صادرات الأسلحة البريطانية إلى “إسرائيل”. تقول المحامية أندروز بريسكوي العاملة ضمن مؤسسة الحق أن “الشهود أثبتوا أن “إسرائيل” تستجوب الفلسطينيين تحت التعذيب، حول كونهم من المقاتلين أو سبق لهم نقل أو إخفاء مُقاتلين أو أسرى. وأكد الشهود كذلك أن أولئك الذين تعرضوا للتعذيب أدلوا باعترافات كاذبة.. إن وجهة نظرنا أن هذه قضية خطيرة بالنسبة لبريطانيا، ويجب أن تؤخذ بالاعتبار عند تقييم مدى شرعية قرارات الاستهداف العسكري، التي تتخذها تل أبيب. نحن نرى أن من المحتمل (والمُرجّح) أن المعلومات والضمانات التي تقدمها “إسرائيل” للمملكة المتحدة مبنية على معلومات مستخلصة بالتعذيب؛ وهي ليست أمرا غير قانوني بموجب القانون الدولي فحسب؛ بل أن مثل تلك الضمانات غير موثوقة على الإطلاق”. وهناك القلق من أن تداعيات أوسع حول الموضوع ستواجه التعاون العسكري البريطاني مع إسرائيل؛ ما يتخطى امدادات السلاح ليشمل طلعات الاستطلاع المكثّفة فوق غزة للعثور على الأسرى المُحتجزين.
“أين المُحتَجَزون؟”
قابل موقع “دي كلاسيفايد” اثنين من المُسعفين الطبيين الفلسطينيين بعد خروجهما من الاعتقال الإسرائيلي، وطلبا الحديث دون الاعلان عن شخصيتهما ضمانا لسلامتهما. ثم وصف المُعتقلان السابقان كيف جرى تجريدهما من ملابسهما وتعصيب أعينهما وضربهما بشدة من قبل السجانين “الإسرائيليين”. وكانت أذرعهما وأرجلهما مقيدتين بشكل مستمر تقريبا. وقد أُجبر أحدهما على ارتداء الحفاظات لمدة شهر، وعُلّق الثاني من السقف وأُطلقت عليه الكلاب. حُرِم السجينان من النوم الكافي والطعام والماء، كما قام أحد الجنود “الإسرائليين” بالتبول على أحدهما حين طلب الماء ليشرب. وهكذا بدا أن الكثير من تلك التصرفات “الإسرائيلية” سادية بحتة؛ وقال أحدهما المسعفين مُعلّقا: “إنهم كانوا فقط يستمتعون بتعذيبنا”. لكن بعض وسائل التعذيب كانت مُخصصة كمحاولة لجمع المعلومات عن مواقع الأسرى المُحتجزين لدى حماس. قال أحدهما، وقد تعرض لإصابة بليغة بقصف من طائرة مسيرّة مسلّحة انه.. “جرى اعتقاله وتعذيبه كجزء من محاولة لجعله يعترف بأشياء لا يعرف عنها شيئا”.. واستذكر قائلا: “سألني أحد الاسرائيليين (ويُطلق عليه- الكابتن) عن الأنفاق والأسرى المُحتجزين، ووضع مسدسا على رأسي وأخبرني أنه سيُطلق النار إذا لم أُعطه المعلومات. قلتُ له: “أرجوك اقتلني”.. لأنه أثناء تلك اللحظات كان الألم في رجلي شديدا لا يُحتمل”.
ورغم تعاون الممرض لم تتحسّن معاملته؛ ومضى يسرد ما حدث معه قائلا: “عصبوا عينيَّ وحملوني من باب خلفي الى منطقة مفتوحة تحت سيطرة الجيش. كانت هناك حفرة كبيرة مليئة بالدم يحوم حولها الذباب، فوضعوني فيها حتى منتصف الليل، ثم أُعيد استجوابي عدة مرات وسألوني عن أعضاء حركة حماس والأسرى المُحتجزين؛ لأن سلطات تل ابيب إدّعت مرارا أن المحتجزين موجودون داخل أنفاق تحت المستشفيات.. وعبرت عن عدم معرفتي بذلك لأنني بصراحة لم أكن أعلم بأي شيء من هذا القبيل..”.
وقال شاهد آخر، وهو عامل إسعاف متطوع: “خلال الأسبوع الأول، تعرضنا للتعذيب فقط من دون أي تحقيق. وقد مات أحد الأشخاص الذين احتجزوا معنا تحت التعذيب. واستذكر أنه “مع بداية الأسبوع الثاني، بدؤوا باستجوابي بشأن ثلاث تهم” تتعلق بنقل الأسرى والأسلحة ومسلحي حركة حماس. وأشار الشاهد إلى أن “بعض سائقي سيارات الإسعاف اعترفوا تحت التعذيب بنقلهم للمقاتلين والأسلحة والأسرى”، مضيفا أن “المستجوبين كانوا يعلمون أن هذا غير صحيح”.
ولا يبدو أن مثل هذه الانتهاكات المنهجية تقتصر على العاملين في المجال الطبي. ففي حديثه إلى Declassified، استذكر محام فلسطيني التعذيب الذي تعرض له على أيدي القوات “الإسرائيلية”.لا يبدو أن تلك الإساءات الممنهجة تقتصر على الكوادر الطبية؛ إذ تعرض محامٍ فلسطيني للتعذيب على يد الجنود “الإسرائيليين”؛ قائلا: “أُخِذتُ الى معتقل نتزاريم، ثم الى معسكر التعذيب سدي تيمان لمدة 18 يوما، ثم تم نقلي الى سجن النقب لمدة سبعة أشهر، وتعرضت لأقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي.. وقاموا بتجريدي من ملابسي وصفدوا يديّ وعصبوا عيني، وجرى استجوابي مرارا حول نفس الاسئلة: أين المحتجزون وأين تختبئ حماس؟” وكلما أنكر المحامي المعرفة بالجواب زادوه تعذيبا؛ واشتركت جماعات من الجنود بضربه وقاموا بكسر يده. وبحسب المعلومات فإن معتقل سدي تيمان يضم ما يُعرف بـغرفة الكلاب؛ حيث يؤخذ السجناءُ الفلسطينيون ليُضربوا وتطلق عليهم الكلاب.
التواطؤ
اعترف وزير الخارجية البريطاني “ديفيد لامي” أن الدولة العبرية تقوم بالفعل بالاساءة للسجناء الفلسطينيين المعتقلين من غزة. وأعلن “لامي” أمام البرلمان: “تشعر حكومتنا بالقلق العميق حيال مزاعم ذات مصداقية عن إساءة معاملة المعتقلين؛ مما لا يتمكن الصليب الاحمر الدولي التحقق منه بعد منعه من الدخول إلى مواقع الاعتقال”. ويضيف: “رفعنا الامر الى الحكومة الاسرائيلية مرارا؛ ومن المؤسف أن تلك المخاوف لم تجرِ معالجتها بشكل مُرضٍ”. رغم أن تلك المخاوف كانت وراء تعليق بعض صادرات الاسلحة البريطانية الى “إسرائيل”؛ لكن لم يبدُ وكأنها أثّرت في التعاون الاستخباراتي بينهما. إذ تستمر طلعات المراقبة الجوية لسلاح الجو الملكي البريطاني فوق غزة بالإقلاع من قاعدة بريطانية في قبرص بشكل شبه يومي؛ وفقا لبيانات تتبُّع الطائرات المتاحة للعامة، وبلغ عدد الطلعات بالمئات.. أكّد الوزراء أن المعلومات التي تجري مشاركتها مع “إسرائيل” تسلك “اتجاها واحدا”؛ إذ يتم تقديم المعلومات حول إنقاذ الأسرى المحتجزين الى السطات “الإسرائيلية”.
غير أن مصادر عسكرية أخرى قالت إنه من المعقول أن “إسرائيل” قد قدمت معلومات استخباراتية إلى الطائرات البريطانية عن مواقع الأسرى المحتجزين المحتملة قبل انطلاق رحلات الاستطلاع البريطانية.
وكانت لندن قد وقّعت معاهدة عسكرية مع تل أبيب سنة 2020؛ حينما كان “بين والاس” وزيرا للدفاع البريطاني. ورغم أن نصوص المعاهدة ما زالت سرية؛ لكن العلاقات الاستخبارية بين البلدين قوية كما يبدو. وتحدث جندي سابق ضمن القوات الخاصة “الإسرائيلية” عن أن المعاهدة عززت التعاون الاستخباراتي العسكري بين وحدة المراقبة 8200 التابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي ووكالة التنصت البريطانية GCHQ، التي لديها منشآت رئيسة في قبرص. كما استخلص موقع “دي كلاسيفايد” أن الوزير والاس التقى رئيس جهاز التجسس “الإسرائيلي” الموساد في سفارة الاخير بلندن؛ وأن مثل هذا الاتصال يبدو وكأنه تعزز بعد أحداث السابع من تشرين الأول 2023.
“الثقب الأسود”
هذا التعاون الوثيق وتبادل الاستخبارات مع اسرائيل يضع موظفي بريطانيا بموضع انتهاك لقاعدة الحكومة المسماة: “مبادئ تلقّي المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالمعتقلين”، والتي قدمتها المخابرات الأميركية بعد فضيحة “قرار التسليم الاستثنائي-extraordinary rendition “ (تعبير مخفف عن الاختطاف الذي ترعاه الدولة ضمن نطاق ولاية قضائية أخرى ونقله إلى دولة ثالثة- المترجمة) وهي فضيحة كشفت تلقي دوائر المخابرات البريطانية “MI5” و “MI6” معلومات استخبارية أجنبية منتزعة من معتقلين أُسيأت معاملتهم. بموجب تلك القاعدة يتعين على مسؤولي وزارة الدفاع إخطار الوزراء إذا تلقوا معلومات استخباراتية من دول أخرى يعتقدون أنها جاءت من معتقل تعرض للتعذيب. وحينها ينبغي على الحكومة البريطانية إستحصال ضمانات أو بذل جهود عبر “القنوات الدبلوماسية”، لتجنب “خدمة الاتصال” تلك، وإيمانا بأن.. “الاستمرار في تلقي المعلومات الاستخباراتية يشكل تشجيعا للأساليب المستخدمة للحصول عليها”.
وتتضمن المبادئ قائمة محددة بثمانية أشكال من “المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، ويبدو أن “إسرائيل” استخدمت جميعها تقريباً؛ وتشمل: أوضاع التوتر، والحرمان من النوم، وحجب الرؤية، والإيذاء الجسدي، ومنع الطعام أو الماء أو المساعدة الطبية؛ والتحرش الجنسي.
ولم يستجب مسؤولو الدفاع البريطانية وكذلك الجيش “الإسرائيلي” لطلب التعليق على الموضوع..
موقع دي كلاسيفايد - بريطانيا
“DECLASSIFED UK”