ستراتيجيَّة إيران الأمنيَّة بعد استشهاد نصر الله

بانوراما 2024/10/30
...

  داني سترينوفتش
  ترجمة وإعداد: أنيس الصفار                                      

لم ينطلق الهجوم الإيراني على الصهاينة، الذي وقع مطلع شهر تشرين الأول الماضي، من فراغ، بل كان وثيق الصلة بما تمكن جيش الاحتلال من تحقيقه في المواجهة مع حزب الله في لبنان وعدم نجاح حلفاء إيران في لجم الكيان الغاصب على إيقاف حربها ضد حماس في قطاع غزّة.  
ولأجل فهم أفضل لأصول هذا الهجوم علينا العودة أولاً إلى ستراتيجية التنظيمات والفصائل المتحالفة مع إيران، وهي ستراتيجية طوّرها وبلغ بها حد الكمال القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني الذي كان حتى تاريخ استشهاده مطلع العام 2020 يعد أحد أكثر الستراتيجيين حنكة وألمعية في الجمهورية الاسلامية.

إذ إنَّ  قدرتها على تأسيس وإدامة وتسليح هذه التنظيمات، القريبة موقعياً من، الكيان الصهيوني مكّنها من رفع قدرة ردعها بدرجة كبيرة دون أن تتحمل ثمناً حقيقياً. هذه الفصائل غدت جزءاً لا يتجزأ من سياسة العمق الستراتيجي الإيراني التي تتيح لطهران فرصة الاشتباك مع اعدائها دون خشية من انتقال هذه الصراعات إلى داخل إيران.
كان على رأس هذه التنظيمات التي تمكنت إيران من تطويرها وتعزيزها عبر السنوات وأعظمها أهمية وقوة بالطبع تنظيم حزب الله، حيث اشتدت قوة هذه الجماعة عبر سنوات طويلة في لبنان، لا سياسياً فقط بل عسكرياً ايضاً بالدرجة الأساس بفضل مساعدات طهران المفتوحة التي حولت حزب الله من تنظيم إلى جيش فعلي.
أما من حيث التطبيق العملي فقد أغدقت الصناعات العسكرية الإيرانية والسورية على حزب الله امكانات متقدمة جعلته قادراً على تهديد الكيان الصهيوني. وفق هذا المعنى أصبح التنظيم أداة ردع مهمة بالنسبة لإيران متى ما فكر الكيان الصهيوني بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية.
تمكن حزب الله، شأنه شأن الفصائل الأخرى في الشرق الأوسط كالجماعات الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن، من الارتقاء بقدراته العسكرية وتطويرها. وقد ساعدت القدرات الستراتيجية لهذه الجماعات على تعميق شعور إيران بأنها قد أوجدت مصداً قوياً بوجه الصهاينة وان هذا المصد بات عنصراً مركزياً من عناصر أمنها القومي.
من الممكن ايضاً أن يكون الهجوم الإيراني السابق على الكيان الصهيوني في 13 نيسان قد شحذ إحساس طهران بأهمية حزب الله، لأن ذلك الهجوم لم تنجم عنه سوى اضرار طفيفة بعد أن تم اعتراض بعض الصواريخ الايرانية. هذه النتيجة ربما تكون قد أبرزت من وجهة نظر إيران أهمية حزب الله لأمنها مع تشديد على ضرورة رفع قدرة هذا التنظيم على إنزال أبلغ الأضرار الكيان الصهيوني من خلال الوسائل الموضوعة تحت تصرفه. بيد أن ردود فعل حزب الله على التحركات الصهيونية غير المسبوقة ضده، والتي بلغت أوجها باستشهاد نصر الله نفسه في 27 أيلول والهجمات على وسائل اتصالاته قبيل اغتياله بأسابيع قليلة، أكدت للقيادة الإيرانية بجلاء ان الاعتماد على محور المقاومة مستقبلاً كمصد ورادع لم يعد ممكناً. وهكذا تجلت سعة الفجوة ما بين التهديدات المعلنة والتنفيذ على الأرض رغم كل ما بذلته طهران وانفقته.

مراجعة ستراتيجية
إضافة إلى ما سبق، وعلى ضوء جريمة اغتيال نصر الله ونائب قائد الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفروشان، بات لزاماً على طهران بأن تقرر ما الذي يمكن أن يعزز قدرتها على الردع المباشر ضد الكيان الغاضب بعد ما بدا أن الأخيرة آخذة باستعادة قدرتها على فرض قوتها في المنطقة. من المهم أيضاً ملاحظة أن إيران قد اعتقدت بعد هجوم 13 نيسان أنها أعادت التوازن إلى معادلة الردع من خلال ردها غير المسبوق على اغتيال حسن مهدوي ممثل فيلق القدس السابق في لبنان. من ناحية أخرى، وبعد اغتيال اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس وسط طهران خلال تموز الماضي الذي نسبت مسؤوليته إلى الكيان الصهيوني، صارت إيران تراعي الحذر من إبداء ردود فعل مباشرة .
بعد مداولات مكثفة تناولت كيفية إعادة ضبط معادلة الردع في أعقاب استشهاد نصر الله ونيلفروشان قررت إيران مهاجمة العدو بنحو 200 صاروخ بالستي وجهتها نحو أهداف تابعة للقوات الجوية وقواعد عسكرية اخرى. يلوح من ذلك ان المؤسسة الدينية قد اتخذت هذا القرار المعقد بعد إدراكها أن مهاجمة الصهاينة باتت السبيل الوحيد لإعادة بناء معادلة الردع مع التأكيد في الوقت نفسه لأطراف محور المقاومة على أن إيران لا تزال ثابتة على دعمها لهم وأنها قادرة على وضع العراقيل امام الهجوم على حزب الله. بذا ركبت إيران مخاطرة كبيرة لأن حزب الله، على خلاف ما كان عليه الحال حين ردت في 13 نيسان، لم يعد قادراً على الانضمام إلى إيران عند وقوع أي هجوم مستقبلي تشنه على الصهيونية. كما ان الولايات المتحدة قد لا تتدخل لمنع هذه الجرائم. لعل خامنئي أحس بأنه لم يعد يملك خيارا آخر وأن بلاده مضطرة لإعادة بناء ردعها ضد الكيان بمفردها.
بغض النظر عن الكيفية التي سينتهي بها التصعيد الحالي ضد الصهاينة فإن إيران مضطرة لمراجعة ستراتيجيتها للأمن القومي واتخاذ الخطوات الممكنة التالية. فمن الواضح انها ستحاول قبل كل شيء إعادة تأهيل حزب الله من خلال ارسال شحنات عسكرية ضخمة إليه مع إيفاد مختلف العناصر المطلوبة لتولى العمل بالنيابة عنها لتثبيت استقرار قيادة التنظيم، مع تقديم الدعم بطبيعة الحال للبديل الذي سيشغل موقع نصر الله. ولهذه الغاية بات مطلوبا من طهران المحافظة على نفوذها لدى الرئيس السوري بشار الأسد والمكوث في سوريا التي تمثل، بحكم موقعها الجغرافي، عاملاً حيوياً حاسماً لنجاح جهود إيران الرامية لإيصال السلاح إلى حزب الله.
تأمل إيران أن يكون بالوسع، حتى في هذه الجولة الراهنة من التصعيد، تحميل العدو ثمناً فادحاً تجنباً لوضع يمكن الكيان من تسخير كل ما باستطاعتها لضرب حزب الله، وستفعل إيران ذلك عن طريق إعادة تنظيم هيكلية حزب الله وإعادة بناء قدرات قسمي القيادة والسيطرة لديه، ومن المحتمل ان يتحقق لها هذا بالاستفادة من عناصر الحرس الثوري الإيراني في لبنان وسوريا.
من جهة أخرى، قد تحاول إيران تحري إمكانية رفع قدرات الفصائل المسلحة اليدبالاضافة إلى زيادة نشاط إيصال المواد المتفجرة إلى الضفة الغربية، مع محاولة إعادة بناء القدرات العسكرية لحركة حماس مستعينة بتعاونها المتجدد مع الجيش السوداني. ومن المحتمل ايضاً أن تواصل محاولاتها لفتح جبهة اخرى عبر الأردن، فهذا كله قد يعوضها عن الضرر الذي تعرض له حزب الله في جبهة الحرب الشمالية.
اضافة إلى ذلك سوف تسعى إيران إلى استغلال علاقتها الوثيقة بروسيا لرفع قدراتها العسكرية بصورة كبيرة. فهي على وشك اتمام صفقة طائرات سوخوي “سو-35”، وسوف تستلم قدرات الدفاع الجوي المتقدمة مثل منظومة “أس 400” لغرض تطوير قدراتها الدفاعية (ما لم تكن قد استلمتها بالفعل). عامل الردع النووي
ومن الواضح تماماً ان طهران – التي تعتمد بدرجة اساسية على قدراتها في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة – ستحاول، بالتعاون مع روسيا ودول أخرى مثل كوريا الشمالية الارتقاء بقدراتها بشكل كبير مع التركيز على تطوير مستوى دقتها وزيادة كمياتها وتوسيع مدياتها بحيث تسمح لها بتشديد تهديدها المباشر
للعدو الصهيوني.
علاوة على ذلك يرجح أن تصعد إيران تهديداتها لجيرانها العرب وتحذيرهم من أنها لن تتردد في مهاجمة من يتعاون مع أي فعل عسكري ضدها. كذلك ستزيد من حجم مناوراتها العسكرية العلنية وتعمق تعاونها الاستخباري مع روسيا للتعرف على مدى إمكانية تعرضها لهجوم من جانب العدو الصهيوني، كما لا يمكن استبعاد أن تطلب إرسال قواتها إلى خارج حدودها لتحقيق زيادة في استعراض قوتها، لا سيما عبر المجال البحري.
فوق ذلك كله تأتي المسألة النووية بالمنزلة الأهم. فإيران اليوم قريبة كل القرب من الوصول بالتخصيب إلى مستوى90 بالمئة وهذا أمر أقر به حتى وزير الخارجية الأميركي “أنتوني بلنكن”، بيد أنها وفق أحسن التقديرات لا تزال على بعد بضعة أشهر قبل الوصول إلى مرحلة اكتساب القدرة على بناء سلاح نووي. غير إنها ومن دون حزب الله إلى جانبها، وإذ تقدّم قوات الاحتلال بأفعالها الدليل تلو الدليل على نواياها وما تمتلكه من قدرات، بات من المرجح أن تضع إيران مسألة الردع النووي موضع الاختبار من جديد، وقد عبر مسؤولون ايرانيون عديدون عن وجهات نظرهم بهذا الصدد. إذ إن طهران لديها القدرة على التقدم عبر المسار العسكري، أو ان تختار بديلاً عن ذلك ضمن محاولة التوصل بسرعة إلى اتفاق نووي انسجاماً مع رغبات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وهذا من شأنه تخفيف خطر التهديدات كما سيقلل كثيراً احتمال دعم اي طرف لإقدام العدو على مهاجمة المواقع النووية الإيرانية.
كخطوة وسطية تستطيع إيران أن تفعل ما فعلته اثناء التوترات بينها خلال نيسان الماضي، أي العودة إلى استخدام التخصيب إلى حدود قريبة من مستوى التسلح؛ كأداة لردع الكيان الصهيوني، بضمن ذلك إمكانية تخطي نقطة اللاعودة كخطوة رمزية للتأكيد على ما تملكه من قدرات، فمع استمرار التصعيد بمواجهة العدو تتزايد احتمالات توجه طهران إلى التخصيب حتى مستوى 90 بالمئة. قد تشعر بأن مواقعها النووية عرضة للخطر او أن وسائلها التقليدية الأخرى لن تكفي، لذا تتعالى منذ الان أصوات من داخل مراكز السلطة منادية بالتخصيب إلى مستوى 90 بالمئة.
ويبدو أنه على إيران التفكير مليّاً إن كان من صالحها السعي إلى مواجهة مباشرة اخرى مع الدولة العبرية، مواجهة ربما ستؤدي إلى مجابهة مباشرة مع الولايات المتحدة ايضاً. بيد أن ثمة امكانية في يد إيران تتيح لها موازنة معادلة الردع عن طريق السعي للتوصل إلى اتفاق نووي ينهي التصعيد الحالي ويخفض مخاطر المواجهة المباشرة مع العدو، وقد يكون من شأن هذا دق اسفين محتمل بين الولايات المتحدة والكيان يكسب إيران وقتاً للتفكير بشأن أمنها القومي. وإذا ما قررت إيران أخذ هذا المسار سيتوجب عليها مراعاة أن إدارة أميركية جديدة ستحل محل إدارة بايدن مطلع كانون الثاني
المقبل، ومن المفترض أن هذه الإدارة ستواصل دعم الصهاينة، لكنها من ناحية ثانية قد تبدي اهتماماً بالتوصل إلى اتفاق يحول دون اندلاع حرب اقليمية أوسع.
إن قرارا إيرانيا مفترضا بشأن وقف اطلاق النار سيكون شاهداً كذلك على سياستها في هذا السياق. لذا يتوجب عليها أن تحسم أمرها بشأن الاستعداد لتغيير سياستها التي تنتهجها منذ 7 تشرين الأول 2023، والذي سيعني في الواقع التخلي عن حركة حماس والسعي إلى اتفاق يفصل ما يجري على غزّة عن ما يحدث في لبنان، وبالتالي انتشال حزب الله على حساب حركة حماس، أم الاستمرار فيها من دون تغيير، كما كان نهج هذا نصر الله، وبالتالي تعريض إيران للخطر ضمن حملة اقليمية شاملة.
مجمل القول هو إن تبعات الضرر الجسيم الذي حاق بحزب الله واستشهاد نصر الله تتخطى بكثير قضية هذا الحزب. فالاحداث الأخيرة، لا سيما الهجوم على الكيان الغاصب مطلع تشرين الأول، يمكن أن يقود إلى تغييرات عميقة الأثر على الأمن القومي الإيراني مع تصاعد احتمالات المواجهة بين هذا الكيان وإيران.

عن موقع مؤسسة
“مجلس الأطلسي” للدراسات