سعادة العشب

منصة 2024/11/03
...

 حبيب السامر
 يبحث الشاعر عن بدائل مبتكرة لمشروعه الشّعري، والتّخلص من النّماذج التي اعتمدت أغلبها على فكرة مركزيّة تعتمد الايجاز والتكثيف، ويواصل الطرق على أبواب تختصر مدلولات النص الحديث بآليات جديدة، لا يقف عند حيّز وفسحة تتكرر كثيرا في فيوض الكتب المتكاثرة والمتناسلة، بل يتعداها في رسم عوالمه الجديدة بعد تجريب مستمر في كتابة نصوص تدعو المتلقي إلى وضع نقاط كثيرة على هامش الصفحة بقلم الرصاص، كونها تأخذه إلى قراءات متعددة مع المحافظة على وحدة النص وبؤرته المفتوحة على نوافذ التأويل، إذ اطلعت سابقا على ثلاثيات (3X 111) الشاعر اليوناني "يانيس ريتسوس" التي أنجزها عام 1987 وهي عبارة عن ثلاث سلاسل، تضم السلسلة الواحدة 111 نصاً شعرياً، يتألف كل نص من ثلاثة سطور، حتما هي تجارب مختلفة بين شاعر وآخر، هذا ما وجدته في كتاب" سعادة العشب" للشاعر عبدالفتّاح بن حمّودة وهو يعتمد سياقا مغايرا في آلية النص.
يقول ماتسو باشو: "الهايكو الذي أكتبه مثل الموقد في الصيف أو المروحة في الشتاء، على عكس الحاجات اليومية الشعبيّة، ليس له التّحصيل الاضطراري الفوريّ"، هكذا نبحث دائما عن مغايرة مبنيّة على رؤية نصيّة مكتملة البناء، متجاوزة عقدة القوالب الجاهزة، تنمو مع تحرّرها من قيود التقليد، تتوالد فيها الرؤيا مع  كسر نمط السائد، بكلمات تدون حروفها بريشة طائر، وجملة من ورد وعطر الحب الممزوج بتأمل اللحظة الصادمة، تخفي خلف النص المدوّن روح التمرّد، تفتح أمام المتلقي أبواب الضوء لكشف الحكاية وأسْطرتها المكتوب بعناية، تصدمك الخواتيم وتبهرك العوالم الشعرية التجريبية رغم سطوع القلق والعزلة وعوالم الحزن لكنها تكشف عن جماليات متفاوتة وتراسل الصور المحكمة في تدافع موجات النص: "عجوز بحزام أبيض/ بحيرات نار في الجبال/ غابة أرامل".
يتّضح بُعد الدّالّ المركزي في العمل الشعري لكسر قاعدة المألوف حين يقدم توطئة تزيل الالتباس، وتفتح لنا مغاليق التصنيفات والأجناسيات التي احتواها كتابه بأن نصوصه ليست من "الهايكو" مع التوازي مع الشكل البصريّ المتكون من ثلاث جمل بأداء قائم على الجملة الاسمية، خارجة عن أجناسية المتداول والسائد، بتوضيحات مطمئنة، تشكل حجر الأساس لكتابه الذي بدأت كل نصوصه بجملة أسمية، وهنا التفرد في هذا الكتاب، ولكي يدع القارئ أن يطلق تصنيفاته الأدبيّة التي يتصورها ملائمة لهذا الشكل الشعري: "غزلان بين الجروف/ ذئاب تتنزّه في المنحدرات/ عالم
شاقوليّ".
هكذا ينمو عشب القصيدة، بغزلان وذئاب وعالم يتخذ الشكل العامودي ليتمدّد العشب أكثر بخطاب تتجسد فاعليته بتكوينات أسمية، لا تقترب من الفعل في بداية الجملة، وهنا يكمن سرّ تفرد الشاعر، والضربة الشّعرية في نهاية النص بصورة مبثوثة على دفعات متوالية، لتمنح النص بعدا جماليا وتراسل حكايات، تعتمد فاعليتها بممارسات وخبرة فنية متوقدة على سيميائيّة اللقطة والوظيفة المتناغمة مع عوالمه: "حذاءٌ جلديٌّ للجائع في الحرب/ دودة حقل للجائع زمنَ السّلم/ هيكلٌ عظميّ للشّمس".  لا تعتمد رؤيته الشعرية على طول السطر أو قِصَرِهِ، بل على خطاب مكتمل، قد يكون كلمة أو كلمتين أو ربما أكثر، وربما يكتفي بإشارة قادحة ليتشّبع النص، ويقول ما يريد دون تكلف وعناء وتصنع، كما في النماذج التي اعتمدناها هنا، تجد الحزن الخفيّ الملتبس للجوع وبقايا هيكل عظميّ، تجده يتظلّل تحت شجرة بيت العائلة الشّعرية.
يبثّ النص مجموعة أسئلة، يكرس من خلالها إجابات مضمرة تكريسا للمتخيل، ومخاتلة الواضح في واقع معيش لتجسير الفعل النصّي وصولا إلى المتلقي بمشاهدَ يوميّةٍ مختزلة تدلّ على كشف التفاصيل وعمل "بورتريه" الكلمات غير المشفّرة، والتي تعتمد رهاناتٍ عدّةً لكشف المعنى: "سمكات في فم البطْريق/ بطْريق في فم كلب البحر/ مياهٌ دافئة".
لقد ضمّ الكتاب الصّادرة عن دار ميّارة للنشر بتونس، أربعة عنوانات رئيسة "حارس الرّمال"، "حارس الإسفلت"، "حارس العشب"، وأخرى بقصائد تعتمد المنحى السّردي في الشعر تحت عنوان مركزي "عشبة لكل فم" ولا أعرف لماذا ضمّنها في هذا الكتاب الذي اعتمد النصّ القصير بواقع (134) نصا، إذ لم يرغب بن حمودة في تجنسيها بالهايكو وقد ترك الباب مفتوحا لمن يقرأ هذا الكتاب الذي عمدَ فيه إلى ترتيب المكنونات المتفاوتة وبثّ روح الشّعر لبناء عوالمه المسكونة بالأشياء والحيوات
والجمال.