نوارة محمد
لن أنسى أبداً يوم تلقيت أول شتيمة وحفلة تنمر على شكل (شَفتيّ) حين اختلفت مع إحدى الزميلات في الصف الدراسي فنعتتني بـ (أم حلك). كانت تلك الصفعة الأولى بالنسبة لي، وبقيت لفترة لا أفهم علاقة وجهي بالخلاف الذي جرى، ولا لماذا الناس يمارسون التنمر في الخلافات البسيطة؟ ولأنني مثل الكثير من الناس أعاني من فرط الأخلاق، لم يكن بمقدوري أن أفجر بوجهها غضبي خصوصاً أن هذه الفتاة كانت تعاني من تشوه خلقي في وجهها بسبب سقوطها في تنور الخبز، فهي ابنة الخبازة (أم علي) وكنت أنا من أشد المتعاطفين معها، حتى إنني اخترتها صديقة لهذا السبب، الأمر برمته لم يكن متوقعاً بالنسبة لي، لا سيما أنني كنت أحاول ألا أخوض في صراع الحرب الدفينة ورمي الأقاويل ومنح الألقاب على حسب الهيئة بين الزميلات، وفضلت ألا أتخذ موقفاً حاسماً ولا أخاصم أحداً، كل ما أفعله هو إنهاء دروسي، وانتظار العودة إلى البيت بفارغ الصبر لأتكور في حضن أمي مثل قِط ناعس. كنت أخضع أمي لأعلى حالات السرد المتسلسل، أقص عليها أحداثي اليومية التي حصلت والتي أتوقع حصولها بعد أيام. كانت أمي مستمعة جيدة، وأنا قاصة من الطِراز الأول.
الأمر لم يقف عند هذه الذكرى البعيدة، ففي الصف الثاني الابتدائي انتقلنا للعيش المؤقت في عمان. كنا نسكن في بناية تقع على الجبل، المكان غريب، والناس غرباء، لا زميلات، ولا أولاد مشاكسين. كانت الأماكن تتشابه في عيني ولا أجد طريقي إلى المدرسة، وكثيراً ما تهت وبحثوا عني لساعات. أمي وجدت الحل، وطلبت من جارتنا (ظبية) التي تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً أن تصطحبني معها، لكنني فوجئت بأن ظبية راحت هي الأخرى تمارس عليّ قسوة من نوع آخر، فكنت كلما دخلت أو خرجت من المدرسة ترمقني بنظرة لؤم، ومرة حاولت أن أبتسم بوجهها فقابلتني بنظرة ازدراء. ذات مرة وبختني بسبب طريقتي في المشي، فكرهت المدرسة، وطلبت من أمي أن تجد حلاً آخر. الغريب في الأمر أن ظبية قبل ذلك كانت عادةً ما تطلب مني أن أذهب إلى السوبر ماركت ليلاً، لأحضر لها ما تحتاجه ودون علم والدي، لأن الجو كان شديد البرودة، وكان من الصعب على الفتيات النزول في وقت متأخر من الليل، ولكن كيف أخذل صبية كلفتني بخدمة؟.
تطورت مشكلاتي وأخذت المشاكسات تكبر معي متحولة إلى صعوبات جديدة، زاد ضرب المطارق على رأسي، ولم تعد المدرسة وحدها من تصيبني بالهلع، فما يحدث هناك هو نموذج مكثف لشكل الشر خارج البيت، خصوصاً أنني كنت اجتماعية على نحو مفرط، وأحب أن أبرم عقود الصداقات مع من هب ودب، لم يكن يشكل فارق العمر أمراً مهماً بالنسبة لي، ولا المستوى الفكري أو الاجتماعي، المهم عندي أن أغمر من حولي بكل ما أوتيت من قوة بالعطاء اعتقاداً مني أن هذا اللطف هو أداة نجاتي، حتى إنني صرت أميل لأكون شخصاً مسالماً رغم عنجهيتي وقوة شخصيتي، بدوت أكثر هدوءاً، مجاملة وأحاول ألا أظهر موقفاً أو أتبنى رأياً لكن اسمي كان يُزج في معارك عدة تحدث ورغم استبسالي في تجنبها أجدني جزءاً منها.
بعد زمن قليل من هذه الحادثة وتلك، وحين رجعت للوراء سنوات قليلة أدركت أن كل من أخذتني الرأفة بهم كانوا سبباً في سلسلة الأزمات التي تعرضت لها. إن فعل اللطف والشفقة كانا سبباً في تقوية الأواصر بين صديقاتي، لكن الجميع سرعان ما يتحولون إلى كائنات شريرة. إن العجز عن تسديد الدين يولد شعوراً لدى هؤلاء (الأقل شأناً مِنا) بأنهم مهزوزون ومصابون بمتلازمة عدم القدرة على التكافؤ الاجتماعي، فينقلبون إلى أشد الأعداء.
اليوم وبعد تراكم سلسلة المعارك والانتصارات أدركت أن التنمر لم يعد مقتصراً على شكل شفتي، أو طريقة عيشي، والسب والشتم أدوات من لا يقدرون على مواجهتي وهذا الحقد الدفين قد يظهر فجأة من القُساة وأصحاب القلوب المشوهة وهم أخطر ممن يظهر ذلك على وجوههم أو أجسادهم، هؤلاء الذين أخذتنا الرأفة بهم يتسببون لنا في لعنة مزمنة تشوه الحياة وتبقينا في حالة معاناة دائمة.