مختارات من قصائد الشاعرة نازك الملائكة.. أنصت إلى الباكين

ثقافة 2024/11/11
...

  ترجمة وإعداد: مي اسماعيل

تتناول مقدمة كتاب "أنصت الى الباكين- Listen to the Mourners" ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة "أنه برغم تعدد أنماط التجديد تلك، إلا أن أشعار نازك الملائكة لم تكن منقطعة عما سبقها في عصور ودول عربية أخرى.. إذ كانت الملائكة واسعة الاطلاع على الشعر العربي الكلاسيكي وعلم العروض، كما أدركت أن حالة الذبول التي كان الشعر يمر بها في وطنها العراق ودول عربية أخرى، عند العقود الأولى من القرن الماضي".

الكتاب الذي صدر عن مطبوعات جامعة "نوتردام" الأميركية "بولاية أنديانا" ترجمة مختارات من قصائد الشاعرة العراقية نازك الملائكة في 142 صفحة من القطع المتوسط.

يُثني الكتاب الذي نُشر بتاريخ 15/ تشرين الثاني من عام 2021 على أثر أعمال الشاعرة نازك الملائكة في تحديث وتجديد منظور الشعر العراقي الحديث، بعد أن استعرض في المقدمة أمثلة عن أساليب تجديد الشعر العربي، منذ عصر المعلقات إلى العصر الأموي فالعباسي. 

نشأت نازك وسط أسرة مثقفة تتعامل مع الشعر والثقافة بشكل جدّي، ونالت مساعدة وتوجيها من والديها. فطوّرت أسلوبها من خلال القراءة الأدبية والشعرية، وأصدرت مجموعتها الشعرية الأولى عام 1947 بعنوان "عاشقة الليل"، وكانت - كما هو متوقع- رومانسية تتماشى مع منظور الشعر العربي السائد حينها. ثم جاءت مجموعتها الثانية "شظايا ورماد" عام 1949، وضمت قصيدة "الكوليرا"، وفيها خرجت الملائكة عن أوزان الشعر التقليدية ذات الشطرين، وقدمت "المُتدارَك" من بحور الشعر العربي مما وضع "الأخفش" تلميذ "الفراهيدي". 

في هذا الشأن، كان والدها أول المنتقدين، لكنها أوضحت بأن ما تريد قوله لا يمكن التعبير عنه عبر وزن تقليدي، ولماذا يجب الالتزام بوزنٍ لا يفي بالتعبير تمسكا بالوزن ذاته لا غير؟ لكن تسمية ذلك النتاج بــ "الشعر الحر" تعني ببساطة أن نقول الشيء الخطأ للسبب الصحيح. 

لقد فهمت الملائكة تماما المعنى الحقيقي لــ "الشعر الحر"، وهو المصطلح الذي صاغه الشاعر الأميركي "والت ويتمان" عام 1859 في مجموعة قصائده: "أوراق العشب"، لكن فكرة الحرية التي احتفى بها العراق ودول عربية أخرى أواسط القرن العشرين، ربما دفعت الشاعرة لاستخدام المصطلح وصفاً للنمط الجديد من الشعر الذي قدمته، كما يرى المترجم د. عبد الواحد لؤلؤة. 

كانت النتيجة أن العديد من الشعراء المُعاصرين كتبوا بالنمط الجديد، وكان منهم: "بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري" وغيرهم.. وظهرت جدلية البحث عمن كان الأسبق في ابتكار النمط الجديد ومن نشره، لكن الملائكة استمرت بالكتابة بالشعر الحر والمُقفى، وباتت بعض قصائدها أقصر، إذ قد تتألف من ستة إلى ثمانية أبيات، لكن بتغيُّر القافية مع كل مقطع جديد. 

كتبت نازك بتوسُّع عن تطور الشعر العربي وأشارت الى تجربتها، خاصة في كتاب "مشاكل الشعر المعاصر" المنشور عام 1962، وبدا حينها أنها كانت مدركةً للهجمات العديدة على تجاربها.. وبدا -لبعض النُقّاد على الأقل- أنها قد غيرت رأيها بشأن "الشعر الحر"، لكنها مضت قدماً من دون أن تهجر شعر القوافي التقليدي، وصولا إلى مجموعتها "البحر يُغيّر ألوانه" عام 1974. 

يشير الكاتب لمساهماته ضمن جدلية "الشعر الحر والمقفى"، الى انه كان منها محاضرة في جامعة العين الاماراتية عام 2010 بعنوان: "الخطأ المستمر تجاه الشعر الحر"، محاولا أن يشرح أمراً واضحاً هو أن شعر "والت ويتمان" لا يملك ايقاعا ولا وزناً، بينما قدمت نازك ايقاعاً وأوزاناً عربية تقليدية. وتساءل الكاتب في تلك المناسبات لماذا لا يتبنى النقاد العرب مصطلح "القصيدة النثرية" الذي قدمه المُفكّر اللبناني أمين الريحاني منذ عام 1910 في منفاه الاختياري بأميركا، مشيراً إلى شعر ويتمان. 


ترجمة الشعر

يقول المترجم د. عبد الواحد لؤلؤة إنه كلما توجه إلى رحلة ترجمة الشعر المحفوفة بالمخاطر، استذكر قول الجاحظ، في العصور الوسطى: "والشعر لا يُستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه..". 

هذا أمرٌ يصدُق بشكل خاص على الشعر العربي في زمان الجاحظ، وحتى زمن قريب كانت الأوزان الشعرية أساسية للشعر العربي التقليدي. إن للغة العربية خصائص لا توجد في اللغات الاوروبية، حديثها وقديمها، وقد اختار المترجم 41 قصيدة لنازك الملائكة ونقلها إلى الانكليزية، قائلا إنه توخى دقة الدرس بانتقائها لإمكانية ترجمتها.. إذ إن ترجمة الشعر العربي هي غالباً ترجمة للمعاني، مع نقل الأسلوب والصور الشعرية قدر ما كان ممكنا. ومن تلك القصائد: "الحياة المحترقة" و"سياط وأصداء" و"جزيرة الوحي" من ديوان "عاشقة الليل". 

حيث تقول الشاعرة في بعض من قصيدة "جزيرة الوحي": خذني إلى العالم البعيد/ يا زورق السحر والخلود/ وسر بقلبي إلى ضفاف/ توحي إلى القلب بالقصيد/ جزيرة الوحي، من بعيد / تلوح كالمأمل البعيد/ الرمل في شطّها نديّ/ يرشف من دجلة البرود/ والقمر الحلو، في سماها/ أمنيّة الشاعر الوحيد/ فلتسر يا زورقي بروحي/ قد آن أن يستفيق عودي/ وآن للشعر أن يغنّي/ بالحلم الضاحك الشرود/ حلمي، وقد صغته نشيدا/ يهشّ، من سحره، وجودي".

وكذلك ترجم د. عبد الواحد لؤلؤة من ديوان "شظايا ورماد" قصائد "عندما انبعث الماضي، ويوتوبيا في الجبال، والكوليرا". ومن ديوان "قرار الموجة" ترجم قصائد "الشخص الآخر، وصلاة الاشباح" وغيرها. 

وتقول الملائكة في بعض من قصيدة "الكوليرا" التي نظمتها عام 1947 على وزن البحر المتدارك: 


"سكَن الليلُ

أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ

فى عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ

صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ

حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ

 يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ

 فى كل فؤادٍ غليانُ

 فى الكوخِ الساكنِ أحزانُ

فى كل مكانٍ روحٌ تصرخُ فى الظُلُماتْ

 فى كلِّ مكانٍ يبكى صوتْ

 هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ

يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ

 طَلَع الفجرُ

أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ

فى صمتِ الفجْر، أصِخْ، انظُرْ ركبَ الباكين

 عشرةُ أمواتٍ، عشرونا

لا تُحْصِ اصِخْ للباكينا

 اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين

 مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ

 مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ

في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ

 لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ

هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ

 الموتُ الموتُ الموتْ

 تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ

 الكوليرا

 فى كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ

 فى صمْت الأبدِ القاسى حيثُ الموتُ دواءْ

استيقظَ داءُ الكوليرا

 حقْدًا يتدفّقُ موْتورا

 هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاءْ

يصرخُ مضطربًا مجنونا

لا يسمَعُ صوتَ الباكينا

 فى كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ

فى كوخ الفلاّحة فى البيتْ

لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ

 فى شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ".