طائرة {يو - 2} الأميركيّة .. حربٌ باردةٌ كشفت عن نقاطٍ ساخنة
بانوراما
2019/06/28
+A
-A
كيران كوك
ترجمة: ليندا أدور
مع بزوغ الفجر على قاعدة انجرليك الجوية الأميركية، اقلعت طائرة مصنوعة من ألمنيوم أسود نحو سماء جنوب تركيا، يجلس شخص واحد، محاصرا داخل قمرة بمقعد واحد، هو قائدة الطائرة "لوكيهيد يو-2"، حيث سيقضي تسع ساعات محلقا بخطوط متقاطعة فوق منطقة الشرق الأوسط، قاطعا خلالها آلاف الأميال. على متن "المهمة 8648" هناك راكب آخر، وهي كاميرا بانورامية من نوع هايكون B تتدلى من منطقة أسفل جسم الطائرة، الى جانب كاميرا تعقب، وستستمر بالنقر طوال الرحلة، ملتقطة أكثر من ستة آلاف صورة لأشياء صغيرة بحجم ثلاثة أقدام ومن ارتفاع يصل الى 12 ميلا.
التنافس المرير
كان تاريخ ذلك هو 30 تشرين الأول من العام 1959، وقد بلغت الحرب الباردة ذروتها، فعلى مدى الاثني عشر شهرا الماضية، تصاعد الخلاف بين واشنطن وموسكو حول برلين، وبروز قوة الزعيم الكوبي الشيوعي، فيدل كاسترو، فضلا عن شعور واشنطن بالقلق من برنامج الفضاء السوفيتي، والذي نجح بالتقاط أولى الصور للجزء البعيد من القمر.
تحلق طائرات (يو تو- U2) بمهام لا حصر لها فوق منطقة الشرق الأوسط، تأتي في المقام الأول، مهمة التقاط صور للمنشآت العسكرية والمدن، لكن من بين الصور الملتقطة، كان هناك الكثير منها التي يعدها علماء الآثار او البيئة في القرن الحادي والعشرين بأنها لا تقدر بثمن، مثل صور لمعالم، مضى عليها أكثر من نصف قرن، هي اليوم أما أن تكون قد اختفت او تكاد تكون مرئية.
يقول علماء الآثار عن تلك المواقع، بأن منها شبكات القنوات الحضرية القديمة، ومصائد ما قبل التأريخ، ومجتمعات الأهوار التي جرى اقتلاعها عند اواخر القرن العشرين، ويصفها العلماء بأنها تعد نافذة مهمة عن الكيفية التي عاشيت خلالها تلك الحضارات. تقول ايميلي هامر، عالمة الآثار بجامعة بنسلفانيا، وهي تشاهد الصور: "كنا نعلم بوجود صور من تلك الرحلات الجوية، وقد تم حفظها كجزء من الأرشيف الوطني الأميركي" مضيفة "تم استخدام التصوير الجوي منذ أمد بعيد، لكن عند الحديث عن الجودة، فان تلك الصور تعتبر
مذهلة".
تعد فترة أواخر عقد الخمسينيات من القرن الماضي، هي فترة التنافس المرير بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في الشرق الاوسط، مع تزايد قلق واشنطن من تنامي نفوذ موسكو في مصر وسوريا.
استمر العمل ببرنامج الاستطلاع بمنطقة الشرق الأوسط، والذي حمل الاسم الرمزي CHESS للفترة ما بين حزيران من العام 1956 وآيار من العام 1960.
ومن تركيا، انطلقت، على الأقل، 52 مهمة سرية، 15 منها حلقت فوق الاتحاد السوفيتي، سعيا للحصول على معلومات استخباراتية حول أنشطته العسكرية، بما فيها المنشآت
النووية.
النقاط الساخنة
أدت الصراعات والتطورات الزراعية الكبيرة والزحف العمراني الى تغير أجزاء واسعة من المنطقة، فقد كتبت هامر مع جيسون أور من جامعة هارفارد ضمن تقرير يستعرض نتائج بحثهما: "وثقت الصور الملتقطة من تلك المهمات النقاط الساخنة خلال الحرب الباردة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي".
كانت المهمات تشمل الطيران فوق اسرائيل ومصر والأردن والسعودية ولبنان وسوريا والعراق وايران وغيرها، حيث كانت الكاميرات تدور عندما تكون الطائرة ضمن المجال الجوي التركي. وقد جمعت خلال تحليقها فوق اسرائيل معلومات عن مفاعل ديمونا، والتي لم يتم الكشف عنها حتى
اليوم.
امتازت الصور بالجودة اذ تم التقاطها بكاميرا B، وعدسات بطول بؤري يصل الى 36 انجاً، وبدقة تفاصيل تصل الى 100 خط لملليمتر الواحد، فجاءت الصور أفضل من صور مشروع كورونا CORONA لمنطقة الشرق الأوسط والتي التقطتها عدسة القمر الصناعي KH4B بين العامين 1967 و1972.
كانت الطائرة تنطلق منذ وقت مبكر لضمان ان الظلال الطويلة على الأرض ستسهم بتسليط الضوء على تفاصيل رئيسة للمشاهد، وقد كانت مهمات أواخر فصل الخريف وفصل الشتاء هي الأفضل بسبب قلة نسبة الغبار الذي يتخلل الغلاف الجوي مما يزيد من وضوح الصور.
لكن عملية فرز وتوثيق تلك الصور كانت مهمة طويلة وشاقة، تقول هامر، اذ قضى فريقها شهورا وهم يخوضون وسط الآلاف من الوثائق والملفات والصور السالبة التي كشفت عنها السرية بهدف فهم البرنامج: "الحقيقة هي أن امتلاك الوثائق وتجميعها معا كان يتطلب الكثير من الجهد والعمل".
حتى الآن، نجح هامر وأور بتحديد مواد تمتد للفترة بين آب من العام 1958 وكانون الثاني من العام 1960، والتي تقدر بنحو 46 ألف صورة التقطت بكاميرات رئيسة، فضلا عن أكثر من ثمانية آلاف صورة بكاميرات التعقب. "هناك العشرات من الرحلات فوق منطقة الشرق الأوسط، لكن 11 منها فقط تم رفع السرية عنها"، بحسب ما تقوله هامر.
8648 و 1554
"المهمة 8648" كانت واحدة من تلك الرحلات، التي جمع فريق بقيادة هامر وأور، مسارها، بشكل دقيق في تشرين الأول من العام 1959، باستخدام التوقيتات على الصور السالبة وبيانات أخرى. فبعد مغادرتها تركيا عند الخامسة فجرا بتوقيت غرينيتش، حلقت المهمة 8648 فوق كل من حلب وحماة وحمص قبل أن تتجه نحو تدمر، ومن هناك، اجتازت حوض نهر الفرات من منطقة دير الزور، واتجهت الى الحدود السورية التركية عند بلدة القامشلي.
لتصل بعدها الى العراق والموصل، وكركوك وبغداد والبصرة، بعدها اتجهت الطائرة (يو تو- U2) جنوبا الى الرياض، العاصمة السعودية، قبل أن تحلق شمالا بطريق عودتها فوق النجف وكربلاء والرمادي.
وحلقت 8648 فوق وادي نهر الفرات، والسهوب السورية لتصوير المنشآت العسكرية لتهبط الى قاعدتها نحو الثانية بعد ظهر ذلك اليوم.
من بين المعالم التي صورتها المهمة هي قنوات وأنفاق ومواقع منطقة "النكوب" شمالي العراق، والتي لا يمكن رؤيتها من الارض او أنها تعرضت للدمار خلال العقود التي تلت، حيث شكلت جزءا من نظام الري الذي دعم مدينة النمرود الآشورية، التي تأسست بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد، لتكون واحدة من أكبر المدن الحضرية على مستوى العالم حينذاك.
ومن خلال التصوير الجوي وغيرها، تمكن الخبراء من جمع وصف تنظيمي عن كيفية ايصال المياه الى المدينة القديمة. وقد امتدت المشاهد التي كشفت عنها الصور السالبة عبر قرون لتعطي لمحة عن الثقافات المختلفة.
بحلول كانون الثاني من العام 1960، نجحت "المهمة 1554" بتصوير هياكل لما كان يعرف بالطائرات الورقية الصحراوية، إذ تبرز صورها عن وجود اشكال تشبه العصا العملاقة موجهة باتجاه صحراء البازلت الأسود شرقي الأردن، والتي يعتقد بأن سكان المنطقة استخدموها على نطاق واسع قبل خمسة الى ثمانية آلاف سنة مضت كفخاخ لاصطياد الغزلان والحيوانات
الكبيرة.
محلقة فوق جنوب العراق، وثقت "المهمة 1554" للطائرة (يو تو- U2) هياكل القرى والكثافة السكانية لعرب الأهوار، الذين تغير نمط حياتهم جذريا والمعتاد منذ ستينيات القرن الماضي بسبب انخفاض مناسيب مياه نهري دجلة والفرات جراء بناء السدود لدى كل من تركيا وايران والعراق، فضلا عن عملية التجفيف المتعمد التي مارسها نظام صدام، مطلع تسعينيات القرن الماضي، كنوع من العقوبة ضد عرب الأهوار لدعمهم انتفاضة العام 1991 التي لم يكتب لها النجاح، ليهجرها سكانها بعد انخفاض منسوب المياه والمد الملحي من مياه الخليج، ما أدى الى نفوق جاموس الماء وتدمير الثروة السمكية فيها.
تعلق هامر: "بعد ان عاش الناس هناك لآلاف السنين اسلوب حياة فريد من نوعه، يرعون الجاموس ويبنون المنازل ومختلف الأشياء من القصب، يسكنون على جزر عائمة مصنوعة من القصب، ويزرعون النخيل ويصيدون السمك" يشير كل من هامر وأور في تقريرهما مضيفين "اليوم، صار بإمكاننا دراسة التنظيم المكاني وديموغرافية ونمط الحياة لتلك المجتمعات".
إلغاء المهمة
أحاطت السرية بالمهمات وبطائرة (يو تو- U2) حتى أن الجيش الأميركي أنكر وجود الطائرة التي تم تفجيرها في آيار من العام 1960. بعد إقلاعها من باكستان، بقيادة غاري باورز، الذي كان يعمل ضمن وكالة المخابرات المركزية.
وأثناء تحليق الطائرة فوق الاتحاد السوفيتي، تم اسقاطها بصواريخ سوفيتية، على إثر ذلك، أعلن الرئيس الاميركي، آنذاك، دوايت دي آيزنهاور، في نهاية المطاف، الغاء مهام الطائرة بضمنا تلك الواجبات المناطة بها فوق منطقة الشرق الأوسط. وقد تسبب الحادث بزيادة التوتر والتدهور في العلاقات الاميركية-السوفيتية، وعرضت أجزاء من الطائرة (يو تو) المحطمة، وأحيل بعدها باورز الى المحاكمة وحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات، غير إنه أطلق سراحه بعد مرور عامين ضمن عملية تبادل للجواسيس.
اليوم، لا تزال طائرة (يو تو) بنسختها الأخرى في الخدمة (فقد لعبت دورا بارزا خلال أزمة الصواريخ الكوبية التي وقعت خلال شهر تشرين الأول من العام 1962، عندما نجحت بتصوير السفن السوفيتية المتجهة الى الكاريبي) لتبقى تلك الصور من ذروة الحرب الباردة محتفظة بقوتها. "يمكن لتلك الصور ان تصبح مصدرا مهما لعلم آثار المناظر الطبيعية في أوراسيا، الى جانب كونها أداة رئيسة لدراسة النمو الحضري والتغير البيئي وغيرها من تطورات القرن العشرين"، بحسب ما ذكره كل من هامر وأور في تقريرهما.