التلوث.. أزمة بيئية تهدد حياة دجلة
قاسم موزان
تصوير: نهاد العزاوي
"دجلة الخير" نهرٌ باذخ العطاء والخصب والنماء في جريانه الأزلي الممتد عبر التاريخ الإنساني الذي أسسَ مع قرينه الفرات أولى الحضارات العريقة تحت مسمى (وادي الرافدين)، وأصبح بحكم سلطته المائيَّة والجماليَّة الهاجس الثري للكثير من الشعراء والفنانين الذين خلِدوا بذكره، ولا ننسى وجوده المرتبط طبيعياً بوجود سلة العراق الغذائيَّة من خلال رفده الدائم للزراعة، إلا أن هذا النهر الخالد تعرض ومنذ القدم للعديد من الكوارث الطبيعيَّة والبشريَّة.
ومنذ زمنٍ يتعرضُ هذا الرافد الخالد الى خطورة بالغة الضرر على مستويات يجب الالتفات لها وعدم تجاوزها، كتلوثه بالمواد الكيميائيَّة السائلة شديدة التأثير في الحياة والصحَّة العامَّة، وكذلك انتشارٍ غير مسبوقٍ للنفايات والقمامة على ضفتيه، الأمر الذي أضفى على النهر صوراً مشوهة وعلى العاصمة وبقيَّة المحافظات وزاد من الوضع سوءاً مدُّ أنابيب الصرف الصحي الى مجرى النهر، الأمر الذي يصعب أعمال تنقية المياه الصالحة للشرب. والكثير من المواطنين أبدوا تذمرهم من الروائح الكريهة المنبعثة منها، فضلاً عن الضرر الذي تلحقه بالثروة السمكيَّة من ضررٍ فادح.
بغداد على موعدٍ مع الكثير من الفعاليات والنشاطات الأدبيَّة، منها على سبيل المثال لا الحصر "بغداد عاصمة الثقافة الرياضيَّة العربيَّة لعام 2025" وهذا يعني الإسراع في إزالة التشوهات التي طالت نهر دجلة بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة من أجل إظهار وجه بغداد الحقيقي.
بهذا الصدد أفاد مدير عام دائرة حماية وتحسين البيئة في منطقة الوسط في وزارة البيئة الدكتور سنان جعفر بأنَّ "هناك تحدياً كبيراً يواجه العراق متمثلاً بنقص إمدادات المياه من دول المنبع، وهذا جزءٌ من المشكلة التي يعاني منها نهر دجلة، علاوة على التقليل الجائر لحصته المائيَّة".
وأضاف جعفر "وبرز تحدٍ آخر هو تراجع جودة المياه داخل الأراضي العراقيَّة نتيجة لتقادم منظومة معالجة الصرف الصحي في المدن التي ازدادت مساحاتها الى خارج الحدود التصميميَّة لمحطات المعالجة، فضلاً عن زيادة العشوائيات التي تصرف مياه الصرف مباشرة الى المجرى الرئيس للنهر".
ولفت الى أنَّ "عوامل التغير المناخي وما رافقها من تراجع معدلات الأمطار وغياب مشاريع حقيقيَّة لحصاد المياه أسهمت في تراجع قيم جريان النهر وتردي جودة المياه ونقصها وقد انحسرت المساحات المزروعة وهذا يمثل عبئاً إضافياً على محطات المعالجة التي توفر الماء الصالح للشرب وأنَّ وزارة البيئة معنيَّة بمراقبة نوعيَّة المياه من خلال محطات رصد موزعة على طول النهر من دخولها وحتى المصب، كما تقوم الوزارة بمتابعة نوعيَّة المياه المطروحة من قبل الأنشطة الصناعيَّة المختلفة الى مجرى النهر، فضلاً عن تصريف المياه البلديَّة".
وأشار الى أنَّ "وزارة البيئة تصدر عدة إجراءات تتعلق بإنذار الأنشطة وفرض الغرامات وغلق الأنشطة المخالفة عدا الأنشطة الحكوميَّة، إذ لا يمكن قانوناً إغلاقها مع كونها التلوث الأكبر، وتعدُّ المستشفيات الحكوميَّة وتصاريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة والأنشطة الصناعيَّة الكبرى في مقدمة ملوثات المياه، وقد شكلت الحكومة - بأمر ديواني - لجنة لمراقبة تصاريف المستشفيات يرأسها وزير البيئة وهي مستمرة بمراقبة ومتابعة تنصيب وحدات معالجة المياه في المستشفيات الحكوميَّة".
أنابيب الموت
الخبير البيئي صميم سلام قال إنَّ "التجاوزت في الآونة الأخيرة أصبحت أكثر جرأة على عمود نهر دجلة في العاصمة بغداد والمحافظات ولعلَّ أبرزها أنابيب الصرف اللاصحي (أنابيب الموت) التي تلقي بسمومها في النهر، محملة بالمخلفات السائلة القادمة من المدن الصناعيَّة والمعامل والمستشفيات وأغلبها تلقي بنفاياتها الثقيلة في النهر من دون معالجتها ما يزيد من ارتفاع تراكيز التلوث وتقليل جودة المياه وزيادة العناصر الثقيلة في النهر لا سيما مع قلة المياه الجارية، ومنسوب المياه المنخفض، الأمر الذي ينعكسُ سلباً على صحة المواطنين عبر إسالات المياه التي تعاني هي الأخرى من ضعفٍ حادٍ بمعالجة المياه الواصلة للدور السكنيَّة هذا من جهة، وتأثر الثروة السمكيَّة والأمن الزراعي من جهة أخرى".
وأضاف سلام، "كما يظهر نوعٌ آخر من التجاوزات وهي الاستثمارات الجائرة التي تنعدم عندها الصورة البصريَّة لجرفي دجلة والتجاوز بعمق عمودها وهذا منافٍ لقانون الري للمحافظة على محرمات الأنهار التي تخضع لواجبات وزارة الموارد المائيَّة وتشكيلاتها للحفاظ على المسطحات المائيَّة من التجاوزات كما يقع على عاتق الفرق الرقابيَّة لوزارة البيئة متابعة المتجاوزين حسب قانون حماية وتحسين البيئة رقم (٢٧) لسنة 2009 كما تخضع الرقابة الصحيَّة لوزارة الصحة بوجوب متابعة تصريفات المستشفيات وضمان عدم تصريف النفايات السائلة الى النهر كون النفايات الطبيَّة السائلة خطرة جداً وتتسبب بأمراضٍ انتقاليَّة خطيرة".
صورٌ مشوهة
المهندس عباس عبود المتخصص في شبكات الصرف الصحي بين لـ"الصباح"، أنَّ "الأنهار وخصوصاً نهر دجلة يعاني من مشكلات بيئيَّة معقدة وباتت مشاهد تلوثها واضحة للعيان من دون معالجة، يضاف الى ذلك تراكمٌ غير مسبوقٍ للنفايات والقمامة ما يضفي على نهر دجلة صوراً بشعة، في الوقت الذي يجب أنْ يكون ايقونة عراقيَّة لاستقطاب السياح".
ويرى عبود أنَّ "ثمة معالجاتٍ حقيقيَّة تحدُّ من المشكلة منها، معالجة شبكات الصرف الصحي القريبة من النهر وإنشاء محطات خطوط الصرف قبل وصولها للنهرو ووضع قانصات دهون في المحلات التي لديها إفرازاتٌ بيئيَّة مثل المطاعم ومحطات الغسل والتشحيم".
وأبدى المهندس المدني جميل حسين "أسفه الى ما آلت إليه أوضاع نهر دجلة ومن انتهاكات مسيئة لجوهر وجوده بوصفه شريان بغداد النابض بالعطاء" وأشار الى "ضرورة القيام بإجراءات فنيَّة وعمليَّة لتقليل الأضرار التي أصابته جراء الإهمال".
وبشأن النفايات والمخلفات الأخرى اقترح حسين "رصف الضفتين بالحجر وبشكلٍ منحدرٍ حتى يمكن إزالة المكبات التي تتراكم على ضفتيه بسهولة وهذه طريقة متبعة في أنهار العالم".
أعمالٌ تطوعيَّة
بدوره أشاد الصحفي مصطفى منير بـ"الجهود الخدميَّة التي تبذلها الحكومة في تطوير وتأهيل ضفاف النهر في مناطق مثل شارع أبو نؤاس، إلا أنَّ تلك الجهود لا تسهم بالقضاء على مشكلة تلوث مياه دجلة بسبب عمقه وتعدد أسبابه ما يتطلب العمل على تشديد الرقابة البيئيَّة من أجل منع رمي المخلفات الطبيَّة للمستشفيات والسائلة للمنشآت النفطيَّة ومحطات إنتاج الطاقة في نهر دجلة، كما يتطلب من الحكومة إقامة محطات معالجة متخصصة لمعالجة النفايات الطبيَّة بطريقة آمنة وإعادة تدوير الأدوات الطبيَّة غير الملوثة، مثل الزجاجات البلاستيكيَّة والحقن المعقمة وفق المعايير الصحيَّة والبيئيَّة، ويجب على المصانع والمزارع أنْ تتبنى أنظمة لمعالجة المياه الملوثة بالمواد الكيميائيَّة قبل تصريفها للنهر، مع الأخذ بقوانين صارمة تحظر التخلص العشوائي للنفايات في الأنهار، مع فرض عقوباتٍ رادعة على المخالفين لكون هذه التلوثات بمجملها ضارة بصحة الإنسان".
وأشار بامتنانٍ الى "الأعمال التطوعيَّة التي يقوم بها الشباب لتنظيف شواطئ دجلة"، مؤكداً "ضرورة دعمها في إطار جهودها المبذولة".
هذا وأجمع مثقفون ومواطنون على ما يتعرض له نهر دجلة من إساءات بالغة تمسُّ صميمَ وجوده بأنَّه ظاهرة غير حضاريَّة ولا تليق به لكون النهر يعدُّ الشريان النابض بالحياة وبالخصب والعطاء التي يؤشر وقرينه الفرات الى عمق التاريخ الإنساني للعراق ولولاهما ما وجدت أولى الحضارات، وأشاروا الى ضرورة الاهتمام بالنهر بوصفه مرفقاً سياحياً مهمَّاً يجذب السياح من العالم، لتبقى الصورة الجميلة التي رسمها شاعرنا الجواهري عن دجلة الخير كما عهدناها سابقاً سلطانة الجمال وفاتنة الطبيعة:
حيّيتُ سفحَكِ عن بُعــــدٍ فحيـِّيني
يا دجلةَ الخيرِ يا أمَّ البســــــاتينِ
حييَّتُ سفحكِ ظمآنا ألــــــوذُ به
لـــــوذَ الحمائمِ بين الماء والطين