كركوك: نهضة علي
في زقاق ضيق وسط كركوك، تتصاعد رائحة الشاي من مقهى صغير، يعج بكبار السن الذين يتبادلون أطراف الحديث. ورغم مرور الوقت وتطور العادات، إلا أن احتساء الشاي في المقاهي ظل تقليداً متجدداً لدى العديد من أهل المدينة، خصوصاً من ذوي الأعمار المتوسطة والكبيرة.
يمثل احتساء الشاي لحظات ذات أهمية كبيرة في الحياة اليومية للكثيرين، حيث يعتبر تقليداً متجذراً في الذاكرة الشعبية. تقول السيدة أم سلام في حديثها لـ"الصباح": "الشاي علاج للصداع كما يقال، فهو ليس مجرد مشروب، بل يحمل في طياته شفاءً للمزاج والجسد معاً". وتضيف أم سلام أن الاهزوجة او الدارمي القديم يعبران عن تراثية أجواء احتساء الشاي وأهميته لدى اجدادنا.
المقهى، الذي يقع في قلب المدينة، ليس مجرد مكان لتناول المشروبات الساخنة، بل هو ملتقى حيوي يشكل جزءاً من هوية كركوك الثقافية. يعد المقهى محطة لقاء لأشخاص من مختلف الأعمار والمهن، سواء كانوا شعراء، أو فنانين، أو متقاعدين، يأتون للجلوس معاً والاستماع إلى قصص الماضي، والتحدث عن واقعهم أو ما يحدث في العالم من حولهم.
أبو زينب، صاحب أحد المقاهي التاريخية وسط المدينة، يتذكر جيداً كيف كانت هذه المقاهي بمثابة ملتقى فكري للعديد من الأدباء والمثقفين منذ أكثر من مئة عام. وقال: "المقهى كان ولا يزال بمثابة حلقة وصل بين الناس من مختلف المناطق، يجلس فيه الكبار لمناقشة الأمور اليومية أو للاستمتاع بالوقت. ورغم ظهور المقاهي الحديثة، إلا أن المقاهي الشعبية تحتفظ بجوها الخاص وتظل مرتبطة بالذكريات". وأضاف أن "الشاي والقهوة هنا لا يقتصران على المشروبات فقط، بل هما جزآن من ثقافة المكان وحيويته".
ولا تقتصر أهمية الشاي عن كونه مشروباً شعبياً فحسب، بل له رمزية عميقة في الثقافة الكركوكلية. فعلى مر العصور، ارتبط الشاي بالطقوس الاجتماعية، فهناك تقاليد قديمة تدور حوله، مثل شرب الشاي عصراً بعد القيلولة في جو من الألفة العائلية. في ذلك الوقت، غالباً ما يُرافق الشاي مع المعجنات في ما يُعرف بـ "جاي العصر"، حيث تجتمع الأسر على طاولة واحدة لتبادل الحديث، بعيداً عن صخب الحياة اليومية. ومع تطور الزمن، تداولت وسائل الإعلام الأغاني التراثية التي أضافت طابعاً خاصاً لهذا التقليد، مثل أغنية "خدري الجاي" للمطربة سليمة مراد، التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الشعبية، تحمل في كلماتها علاقة حميمة بين الشاي والحب.
ورغم اختفاء بعض تفاصيل الماضي، يظل المقهى في كركوك مكاناً يلتقي فيه الجميع، في جو من الألفة والتراث، ليبقى الشاي شاهداً على تلك اللحظات التي لا تقدر بثمن، لحظات تمر فيها الساعات دون أن يشعر الناس بها.