لعل أبرز ما جابه شعراء حركة التجديد في شعر العامية العراقية إشكالية اللهجة، التي كتب بها هذا اللون مذ بداياته العفوية في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد، ولعل تلك البداية التي نطق بها (ابن أبي نقطة) غلبت عليها المسحة المدينية المبكرة :
" ياسيد السادات.. لك بالكرم عادات
انا ابن ابي نقطه.. تعيش ابويا مات"
اللهجة في العامية تقابل اللغة في شعر الفصحى، وفي كلا الحالتين تشكل أعلى صعوبات استخدامها على حد ما يراه (اودن) إذ يشير بالقول إلى أن: " الشاعر هو الأب الذي ينزل القصيدة. واللغة هي التي تحبل بها".
اذن نحن ازاء عملية ولادة لا يصح الرهان عليها مسبقا، لا أمية ولا تعلم تحكمتا في بدايات هذا اللون، فلربما النباهة ولا أريد المبالغة لرفعها إلى مصاف العبقرية تلك التي نجدها في بعض موالات موهوب كـ(الحاج زاير) :
" ابغي وصالك وروم منل مراشف ورد"
كم يقترب هذا البيت من فصحى اللغة ؟ إنها نباهة الموهبة وحذرها.
في مسار التجديد ابتدا مظفر النواب منذ قصائد مجموعته الأولى (للريل وحمد) بحذر عززه وعيه الشعري وتجربته الحياتية، فقد تحاشى الانزلاق في بئر العامية المغرقة بمحليتها برغم اكتشافه لذلك الكنز الجمالي من مفردات أقاصي الجنوب العراقي _ الاهوار- برغم بغداديته، لذا تجد اللهجة في مستوى عال من الرشاقة والتوصيل في تلك القصائد :
" مثل الطاك
محني اعكاده ع المهجور
يلتم العكد بي
ويعبرني ثلاثيني جنح عصفور"
بل وثمة الموروث الذي وظفه في قصيدة " أيام المزبن " دون الانزلاق حتى في بيئة القصيدة ومناخها السياسي، إذ التقط الموروث الكربلائي بذكاء عال:
" كل كذله ريحانة طف "
البيئة لا تعني مصوغات التجربة كلها في تجارب شعراء العامية بقدر ما يعنيه الوعي الشعري الذي يدعم التجربة ويبرر نجاحها ولا أعني شهرتها في اوساط متراجعة الوعي اصلا. ذلك ما نجده في تجارب مهمة - ليست مشهورة بحساب راهننا الرديء بحكم شعبوية التداول والفوضى الاعلامية -.
تلك التجارب التي اعنيها تمثلت في قصائد " كريم محمد حمزة، طارق ياسين، علي الشباني، عزيز السماوي، حامد العبيدي " ولربما أصوات أخرى نسيتها. ازاء هذا كله ظلت المدينة متوارية في قصائد العديد من التجارب البارزة " عريان السيد خلف، مجيد جاسم الخيون على سبيل المثال لا الحصر ". لهجتنا ظلت عرضة لهزات عنيفه اجتماعية، سياسية، ثقافية، دونما قواميس وبلا معاجم، ولذا فهي عائمة تستهوي وتغري على الكتابة، لكن الامساك بكل ما يعين الولادة وابعادها عن التشوهات بات أمرا غاية في الصعوبة الا انه لبس بالمستحيل.
أما أن اتهمنا فوضى حاضر هذا اللون فهو ليس الوحيد في دائرة الاتهامات، اذا ما احتكمنا الرؤية النقدية المنصفة ونرى بعين الحياد ما بلغته الكتابات التي تنشر وتشارك في فعاليات الشعر تحت مسمى " قصيدة النثر" الا انها بعيدة جدا عن ايما تجنيس باستثناء ال" خواطر العابرة": وهي بهذا لم تكن سوى ولادات مشوهة.