الاشتغال الشعري واختلاف الأساليب

ثقافة 2024/12/01
...

  علي لفتة سعيد

مثلما لا يمكن الإمساك بتعريف الشعر، أو حتى الأجناس الأدبية، فإنه لا حدود أو نقاطا محددة، أو آليات معروفة للاشتغال الشعري. فكل شاعرٍ له طريقته في التدوين والكتابة والمعرفة. ربما هناك أثرٌ وتأثير، واقتناع بتجربة شاعرٍ سابق، أو إيجاد طريقة للتعبير عن الخلجات الملموسة والمحسوسة. فلا شيء محدد رغم وجود تشابه في الاشتغال واختلاف في الأفكار. لذا من الممكن القول إن الشعر يحتوي على تعدد وتشابه في طرق الاشتغال، لكنها لا تكون مطابقة بصورةٍ تشبه الاستنساخ، إلا في حدود البدايات الأولى لكل شاعر، حيث يكون التأثر بتجربة شاعر. وهذه بدايات يمرّ بها الجميع، وقد يكون الأمر كما يقال بلا استثناء. فالتجربة الأدبية عموما والشعرية خصوصا تأتي بتأثير القراءات، فيضرب عصا الموهبة على نغم الكلام، فيثور الداخل للتدوين بطريقةٍ لا تغادر صاحب اليد التي نوهت بالعصا لميلاد شاعر أو أديب.
ومثلما لا يوجد شكل محدّد لقصيدة النثر، فإنه لا يوجد اشتغال محدّد لها أيضًا. فكلّ شاعرٍ له طريقته، فمنهم من يكون اشتغاله على أساس الفكرة، ومنهم من يشتغل على أساس الشكل، أو على أساس الترتيب اللغوي وما ينتج عنه من توصيفات، مثل النص الواقعي واليومي والملحمي والدائري والمدوّر، أو القصيدة الشعرية أو قصيدة السرد، وغيرها من التوصيفات الاشتغالية التي تمنح الاشتغال معنى التكوين، مثلما يمنح الاشتغال شكل التوصيف، وهو ما يبيّن أن لا حدود لأنواع الإنتاج، لأن الشعر، وخاصة قصيدة النثر، ليس قطارًا يضع الشاعر المتمكّن من إنتاج عربته على السكّة الحديدية، ويسير مع السائرين باتجاه الإبداع والتدوين المستمر، بإدامة الإنتاج.
بمعنى آخر، إن الأدب ليس له قوانين محدّدة بفقرتين وأشكال معروفة، بل له علاماتٌ دالّة على وجوده كنصّ منجز. وهو ليس وليد اليوم أو التفكير الشخصي الحالي، بل كما قال الأوّلون، ومنهم عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه "اختصام ونقد"، حيث ركّز على موضوعة الأدب بشكلٍ عام، وأشار إلى أنه لو كان الأدب يتطوّر بالقوانين أو يتحقق بمجرد الرغبة فيه، لكان قد طالَب الثورة بإصدار قانونٍ يقضي بهذا التطور وينظمه كما أخذتْ في تنظيم الاقتصاد وشؤون الحكم. ولكن تأثير القوانين في الأدب بطيء، ولا يظهر إلا حين تتأثر الحياة كلها بهذه القوانين. لذلك، يطالب دعاة التجديد بتوجيه صحيح ومستقيم، دون إسراف أو شطط أو جموح. وهذا يعني أن الاشتغال يتبع العديد من المتطلّبات التي تدخل في قوانين المنتج نفسه، وكيف يريد الكاتب لنصّه أن يكون، وبأيّة طريقةٍ، شريطة أن يمتلك المنتج وعيًا وفهمًا لآلية الاشتغال وطريقة الإنتاج، ولديه المواد الأولية التي يشتغل عليها، وليس بطريقة من يحمل عدّته المتمثّلة بجمل غير متناسقة ويشكّل منها عربةً، ثم يضعها في ظلمة الليل على سكّة القطار، وهو يعلم ألا وقود إبداعيًا فيها.

خلق الاشتغال والاختلاف
إن الشاعر هو من يخلق أدواته بعد أن يصل إلى مرحلة الاكتشاف الكلّي لموهبته، التي تتحوّل إلى المرحلة الإبداعية. فهو قد فكّ أسر التأثّر بالآخرين، وأدرك أهمية الأدوات التي تحملها عدّته الإنتاجية ليختار الآلية المناسبة. كما يتمكّن من فرز الإنتاج الذي قرأه ويقرأه عن إنتاجه الذي سيقرأه الآخرون فيما بعد. بمعنى أن الاختلاف يكون في طريقة الإنتاج وشكله، وربما يكون له أسلوبٌ خاصّ به، أو أنه خالف بشكل بسيط ما هو متعارف عليه من أشكال الكتابة الشعرية التي تأثّر بها. وأولى مراحل الاختلاف الاشتغالي هي أن الشاعر "يخلق" حتى مراسيم افتتاح نصّه بعد الإنتاج الكلّي. وقد يكون هذا مرتبطًا بالتطوّرات التي تشهدها البيئة التي خرج منها الشاعر، وإن كانت تطوّرات ذاتية، سواء في شكل النص أو محتوياته الداخلية. في حين أن المتغيّر البيئي الكلّي يشمل كلّ شيء ويرتبط بالنص الشعري أو غيره، كما في تغيّرات الحروب والسلام والرخاء والجوع. وهذا يعني أن الشاعر يخلق لنفسه طريقًا وطريقةً يبثّ فيه فكرة نصّه، عبر ما تسمّيه الناقدة نادية هناوي "الوعي الذوقي". وتقول في مقالٍ لها نشر في جريدة المدى وحمل عنوان "في ما أُهمل من أعراف الأدب": إن (بفعل تطورات الحياة العربية في جوهرها، خلق الأدب لنفسه وعيه الذوقي والجمالي بفعل التلقي العام والخاص، وما بلوره النقاد في فرضيات ونظريات وقواعد. ومن التطورات التي حصلت في قوانين الأدب الداخلية أن نشأت علوم جديدة في اللغة العربية بعد اختلاط العرب بالأقوام الأخرى عبر الفتوحات).
وهذا يعني أن هذه الاشتغالات لا تأتي كما النبتة البريّة، فهي صراع مع الموهبة، ومن ثم الأثر والتأثير، ومن ثم القراءات الواعية لما طرحه النقاد، لتنشئ لها طريقة خاصة. وهو ما يعني أن تلقّي كلّ هذه العناصر أو المهمّات لا يأتي أيضًا بأن يكون الإنتاج متشابهًا.
ولو أعطينا فرضًا: العديد من الشعراء في الوطن تأثّروا بتجربة محمود درويش الكتابية، الذي تأثّر هو الآخر بكتابات من سبقوه. ليصل إلى مرحلة الإثبات على الكلّ الشعري الذي كوّنه لنفسه وارتآه. سنجد أن المتأثّرين على كثرتهم، لن يكون إنتاجهم مشابهًا لدرويش ولن يكون متشابهًا مع بعضهم، لأن آليات الاشتغال الكلّي اختلفت بين شاعرٍ وآخر. فتلك لا تحدّدها إلّا العملية الإنتاجية المرتبطة بالفكرة التي تشتغل عليها القصيدة، وكمية المفردات التي يمتلكها الشاعر، والوعي الذي يسيّر المفردات في طريقة الإنتاج، والذائقة التي تجعل الجملة الشعرية تظهر بهذه الصورة أو تلك. وهذا يعني تنوّع الخلق الشعري والاختلاف التكويني حتى لو كانت المفردات متشابهة. ولو أعطينا مجموعة شعراءٍ فكرةً واحدةً لكتابة قصيدة، وتمّ شرح الفكرة بإسهابٍ مقصود وليس من خلال الترميز، فإن الاشتغال سيكون مختلفًا، مثلما يكون الشكل مختلفًا. ولو طُلِب أن يكون الشكل واحدًا، لكان الاشتغال متنوّعًا أيضًا، بل إن الاختلاف سيكون حتى في طريقة الرؤية للموضوعة وبالتالي طريقة تناولها. فمنهم من يستخدم السخرية، أو الواقعية اليومية، أو الرمزية الشعرية، أو الشكل المتقطّع، أو المتناوب، أو المستمر كجسدٍ واحد، أو بطريقة الفعل الدرامي، أو الملحمي، أو أية طريقة اشتغال مختلفة لذات الموضوعة.

تنوّع الاشتغال
الاختلاف في الاشتغال الشعري لا يعني الاختلاف في التوصيف والشكل فقط، بل حتى في الداخل الإنتاجي بدءًا من العنوان. وربما يكون الاشتغال هو استخدام التقنيات التي تولّد النصّ الشعري النثري تحديدًا، ومن هذه التقنيات هي التي تولّد النص بروحية المنتج. لذا يمكن تقريب عملية الاشتغال بالأسلوبية التي ينتهجها المنتج، وهي التي تساهم في تكوين النصّ وشكله النهائي، والذي لن يبقى هو الآخر على شكله الواحد منذ الانتباهة إلى طرقة الاشتغال في الكتابة الشعرية لدى الشاعر، حتى الوصول إلى مستويات العمر الإبداعي، لأن مسبّبات التجديد متوافرة دوما، وهي البحث عن الملائمة ما بين العصر الذي يكتب فيه النصّ، وبين البيئة والروحية والذائقة التي يحملها الشاعر ذاته، من أجل الوصول إلى عملية الإقناع للمتلقّي، الذي سيحوّل ما كُتِب من نصّ إلى خطابٍ، ليكون الشاعر الذي كتب النصّ قبل عقدين، ليس كما هو في الزمن الراهن، والزمن الذي سيكون مستقبلًا. فموجبات الحداثة الأسلوبية متواجدة ومطلوبة وراهنة بتقدّم العملية الإبداعية والفهم العام لماهية التفكير والاشتغال. وهذا الأمر يحتاج إلى طاقةٍ متجدّدةٍ قادرةٍ على الملائمة والمواءمة مع المستحدثات التي تأتي بها المتغيّرات البيئية. فما كان مثلًا يُنتَج على الورق، غير ما يُنتَج الآن على الحاسوب، وما كانت من نصوص الرموز، صارت الآن نصوص الومضة السريعة لدى نفس الشاعر، لأن أدواته تأثّرت بالبيئة وما حصل فيها من تغيّرات.
ولهذا فإن الاختلاف والتباين في الاشتغال الشعري يتبعان الشاعر الذي يتبع موهبته وذائقته وقدرته على إنتاج النصّ بما يريده من معنى ومبنى وشكلٍ ونظام. ومن أهم العوامل التي تساعد على اختلاف الاشتغال وتنوّعه هي:
أوّلًا: التفريق بين هويات الشعراء، التي تعد العلامة الفارقة التي تعطي آلية الاشتغال قوامها من خلال تعدّد الطرق التي ينتج فيها النص.
ثانيًا: اختلاف أذواق الشعراء ومنابع الاغتراف الذي جاؤوا منه، والذي كوّن التراكمات التي حصدها من عمليات مراقبة للموهبة، وتفكيك التأثر، الذي منح الموهبة ضوء الظهور.
ثالثًا: برمجة الإنتاج وفق الرؤية التي يريدها الشاعر/ المنتج، من أجل توضيح رؤاه الشعرية وما يقصده من معالم الفكرة.
رابعًا: المرحلة التي أنتج فيها النص الشعري، ومكانه وزمانه، وما يميّز هذا الشاعر عن ذاك، في ذات البيئة وحتى ذاك المكان.
خامسًا: الاجتهاد الذي يتمتّع به المنتج/ الشاعر في اختلاق وخلق الطريقة الإنتاجية، وكميّة اللغة التي يحتفظ بها، والفعّاليات الأخرى، من قدرةٍ ومقدرةٍ ومطاولةٍ وإصرارٍ على الإنتاج بهذه الطريقة أو تلك.
سادسًا: الفارق بين هذا الشاعر وذاك من ناحية الإنتاج الفكري، وفاعلية المؤثّرات الأخرى، كالفلسفة والدين والتاريخ ومن ثم خياله وقدرته على الإبداع.