سوق الهرج.. مقتنياتُ الملوكِ وأنتيكاتٌ نفيسةٌ بين الركام

ريبورتاج 2024/12/03
...

 بغداد:  بشير خزعل
 تصوير: نهاد العزاوي

للأمكنة تاريخ ميلاد شأنها شأن البشر، ولها مسميات كذلك، وصفات تميّزها عن الأمكنة الأخرى، ولسوق هرج امتيازات تاريخيَّة جعلت منه متنوع الصفات والاستخدامات، تراه أحياناً سوقاً للملابس القديمة، وتارة معرضاً للخواتم والساعات، وأخرى محال لبيع المسبحات النادرة، ومركزاً مهماً لبيع التحف النادرة أو ما تسمى بالأنتيكات.
سوق الهرج، الذي يعاني الإهمال اليوم، حاله حال أغلب الأماكن التراثيَّة والمعالم التاريخيَّة التي تزخر بها بغداد، يحتضن مسجداً تاريخيّاً يعرف بجامع القبلانيَّة، الذي اندثر مع مرور الزمن. لم يتبقَ من هذا المَعْلَم سوى حجرة صغيرة تطلُّ على سوق المغازجيَّة، والتي تضمُّ رفات عالمين من أبرز علماء بغداد: الإمام أحمد القدوري، المتوفي عام 428 هـ، صاحب كتاب "نور الإيضاح" في الفقه الحنفي، والإمام محمد الوتري، المعروف بقصائده الوتريَّة. ومع توسّع السوق، خيّمت حالة من الإهمال على هذه الحجرة التاريخيَّة، ومن الممكن أن تكون قد اندثرت تماماً في ظل التغييرات العمرانيّة التي طرأت على المنطقة.

الموقع وتاريخ البناء
في مدخل شارع الرشيد من جهة ساحة الميدان، حيث يقع سوق الهرج، هناك مرقد الشيخ عثمان بن سعيد العمري، السفير الأول للأمام المهدي (عج)، كما يُشاع عند بعض أصحاب المحال في السوق، يرجع تاريخ  تأسيس السوق إلى أكثر من (300) سنة، وبالتحديد في العهد العثماني وتضرب جذوره في القدم الى العهد العباسي، ومن قبله كان السوق والمساحة المحيطة به من جهة ساحة الميدان مربطاً لخيول جيش المسلمين في عهد خلافة الإمام علي (عليه السلام) وسُمِّي السوق باِسم سوق الميدان وهي التسمية العربية القديمة لهُ، وأقدم من التسمية التركية (سوق هرج)، والتي تعني الفوضى وعدم النظام، تبدأ معالم السوق من ساحة الميدان وتصل نهايته الى بناية القشلة.
الحاج عبد الله (71 عاماً)، أشهر مثمّن او (الحجي) كما يحب يناديه الزبائن، واصحاب المحال في السوق، احد المختصّين بتثمين الأحجار الكريمة والسبح، ويستشيره الكثيرون من زبائن السوق قبل إقدامهم على شراء مسبحة ثمينة، وبعضهم يعطيه مكافأة لا تقل عن خمسة آلاف دينار للمشورة التي لا تستغرق أكثر من 5 دقائق او أقل من ذلك، فهو يبيّن نوع المسبحة وثمنها الحقيقي وبجملة قصيرة لينتقل الى الزبون الآخر.
ويروي الحاج عبد الله عن سوق الهرج أنه برغم فقره العمراني وبساطة الحرف والحاجيات التي تُباع فيه، إلّا أنّه يحوي كنوزاً ثمينة لا تقدر بثمن، وحدثت فيه من الصفقات ما يحزن لها القلب، لأنّ جميع تلك الكنوز والنفائس والتحفيات هي تراثيات وآثار عراقيّة استقرَّ بها بالمطاف خارج العراق، ففي تسعينيات القرن الماضي مثلاً بيعت مختلف التحف العراقيَّة النادرة، أكثرها ثمناً سيف نصله من الذهب الخالص والفضة منقوش عليه باللغة العبرية ويرجع تاريخ صنعه الى أكثر من ثلاثة قرون، عرض للبيع بمبلغ 350 ألف
دولار.

روّاد السوق
على الرغم من الأهمية التاريخيّة والتراثيّة الكبيرة التي يتمتع بها سوق الهرج وشهرته كأحد أسواق بغداد الفريدة، فإنَّ العديد من معالمه تعرّضت للاندثار بسبب الإهمال المستمر من قبل أمانة العاصمة منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم.
يذكر "أبو سامي"، أحد المختصّين في بيع الساعات القديمة وتصليحها والذي يعمل في السوق منذ كان في الخامسة عشرة من عمره، أن السوق فقد بعض معالمه بسبب هذا الإهمال. ومع ذلك، يسترجع العديد من الزوار التاريخيين الذين كان لهم حضور مميز في السوق في سنوات القرن الماضي. فكانت تتوافد عليه شخصيات بارزة من فنانين وسياسيين من مختلف أنحاء العالم للبحث عن التحف أو للتبضّع من محال السبح والأحجار الكريمة النادرة.
ويتذكر "أبو سامي" زيارة السفير الروسي في عام 1997، وكذلك زيارة سفراء من اليونان والإمارات، فضلا عن فنانين عرب من تونس والأردن ولبنان ودول الخليج. وفي حادثة أخرى، يروي كيف جاء زائرٌ مغربي في بداية عام 1993، حاملاً صورة لمسبحة نادرة من نوع "كهرب أصفر أبو الحشرة" منقوش عليها اسم يهودي، فضلا عن صورة لسجادة يدوية منقوشة بالعبرية. وبعد بحث استمرَّ لأكثر من أسبوعين، تمكن من العثور على السجادة وشرائها بمبلغ 35 ألف دولار أمريكي، كما اشترى المسبحة بمبلغ 11 ألف دولار أمريكي.

طوابع وأوسمة
 يؤكد الباحث التراثي محمد رضا جغان أن سوق الهرج يحتوي على مجموعة متنوعة من المقتنيات التي توثق تاريخ العراق السياسي، الثقافي والاجتماعي. من أبرز هذه المقتنيات الطوابع البريدية، العملات الورقية، الأوسمة والأنواط الملكية والجمهورية، فضلا عن التسجيلات الموسيقية النادرة التي تباع على أشرطة تُسمى "البكرة". كما يضم السوق صوراً عائليّة وشخصيّة تعود إلى أسر عراقيّة قديمة من الطبقات السياسيّة والفنيّة والثقافيّة البارزة في ذلك الوقت.
وتُجمع هذه النوادر عبر التداول والبيع والشراء عن طريق وسطاء يتعاملون مع سماسرة الأنتيكات، الذين يحصلون على هذه القطع من البيوت القديمة في المناطق التراثية مثل الكاظمية، الأعظمية، باب الشيخ وشارع الكفاح، فضلا عن بعض البيوت والأسواق في المحافظات الأخرى. كما يقوم بعض أصحاب المحال المتخصصة في الأنتيكات بتوظيف باحثين للعثور على تحف نادرة في هذه المناطق، مما يسهم في إبقاء هذه القطع التاريخية حيَّة في السوق.