الحُبُّ ضربٌ من انكشاف الوجود

ثقافة 2024/12/04
...

  د. عبد الجبار الرفاعي

ليس هناك ما يشعر الإنسان بمتعة وجوده في العالم كالحب والإيمان. أجمل ما يتجلى في الإنسان الحب، وأجمل ما يتجلى فيه الإنسان الحب، وأعذب صلة وجودية بين إنسان وإنسان تتحق ق بالحب، وأعذب طور وجودي للإنسان الحب. الحب ضرب من انكشاف الوجود وتجلي ما هو مضيء في الإنسان، واحتجاب العناصر المظلمة، واضمحلالها إلى أدنى مرتبة ممكنة. الحب الأخلاقي بلا شروط ولا قيود نعمة إلهية، لا يظفر بها إلا الأخلاقيون النبلاء.

كأنَّ الإنسان يغيب في الحُبّ عن الزمان والمكان والمادة ويختفي ظلامها، وكأنَّ الزمان يتحول إلى صفر، ‏عندما يحضر هذا النوع من الحُبّ. لا ينكشف النورُ إلا بمرآة يتجلى فيها، ‏الإنسانُ الأخلاقي يتجلى فيه نورُ الله، الأخلاق مرآة نور كائن مضيء. الحُبّ الأخلاقي ليس حالة شعوريَّة مؤقتة أو عابرة، إنَّه رحلة وجوديَّة يعيد الإنسانُ تعريفَ ذاته فيها ويوجد بطور جديد. 

ما دام الحُبّ رحلة وجوديَّة، فكلّ رحلة وجوديَّة يخوضها الإنسان لن يعود بعد خوضها لما كان هو عليه قبل ذلك. كلُّ ما هو وجودي في الحياة منبع إثراء وتكريس لكينونة الإنسان، سواء أكان من نوع مبهج أو من نوع موجع، وإن كان كل منهما يحدث أثره من جنسه وبكيفيَّة تشاكله. الذي يعيش الحب بوصفه تجربة وجود يولد ولادة جديدة، بالحب يولد الإنسان بطور وجودي أغنى. الذي لا يحب من هو جدير بالثقة والمحبة يبذر مشاعره. الحاجة للحُبّ والإيمان من الاحتياجات الوجوديَّة العميقة التي لن يستغني عنها وجودُ أيّ إنسان، وكلما ازداد عدد المحبّين تزداد محبّته لهم، وتشتدُّ حاجته إلى التواصل معهم وتحذير محبتهم. يتذوّق الإنسان عذوبةَ الحُبّ بوصفه رحلة وجوديَّة يتحقّق بها، وان كان لا يستطيع التحدث عنها إلّا بحدود ما تتسع له الكلمات، تضيق اللغة عن التعبير لرسم صورة واضحة للوجود.

 الكائن المحب مضيء يفرض حبّه على من يكون حوله. الحُبّ ضوء حيثما كان يبهج القلوب.‏ الحُبّ يطهر الروح من الظلام. مَن يستثمر في الروح يفرض حبّه حتى على القلوب القاسية. الحبّ الاستثنائي الأصيل يتحقق فيه الإنسان بطور وجوديّ أجمل وأثرى. يتذوّق الإنسان الحب بوصفه رحلة وجوديَّة يتحقّق بها، ولا يستطيع التحدث عنها إلا بحدود ما تتسع له الكلمات، تضيق اللغة عن التعبير لرسم صورة لما يتحقّق به الإنسان من أطوار وجوديَّة. يحتاج كلُّ إنسان الحُبّ وربما تزداد حاجته للحُبّ لو ازداد عدد المحبّين في العائلة والأصدقاء ومَن يتواصل معهم، يرى الإنسان كلما ازداد عدد المحبّين ازدادت محبّته لهم وتضاعفت حاجته إلى محبّتهم. 

في الحُبّ خاصية عجيبة يتميّز بها، وهي قدرته على إعادة إنتاج مكونات ولادته ومنابع إثرائه من داخله؛ لذلك يتجذّر الحُبّ ويصفو ويُثمر عندما تتّسع مساحةُ محبّة الإنسان لغيره، ثمرة الحُبّ هي الحُبّ لا غير. كلُّ حُبٍّ يتكرّس وينمو على شاكلته، إذ يتفاعل كلّ إنسان مع الحُبّ بما يتناسب مع نمط الحُبّ ونمط شخصيته. إنَّ إعادة إنتاج الحُبّ وإفاضته ترتبط بنمطه وكيفيته، ودرجة تفاعل الروح واستلهامها له.

 مكافأة الحُبّ هي الحُبّ، ما يطلبه الحُبّ هو الحُبّ، لا يرتوي الحُبّ إلا بمزيد من الحُبّ. يتسع القلب ويضيء ويبتهج كلما اتسع فضاء الحُبّ فيه. بهذا المعنى يتجاوز الحُبّ كونه تجربة عاطفيَّة، فيصير نافذةً لانكشاف أعمق لوجود كينونة الإنسان. الأثر الخلّاق للحُبّ يظهر بإثراء الهوية الوجوديَّة للإنسان، وشعوره بتوكيد الذات، وكأنَّ وجوده امتدَّ فاستوعب مَن يحبّه. معادلة الحُبّ تؤثر وتتأثر بطرفيها وقدرتهما على البناء الرصين للصلة الوجوديَّة. يتعذر أن تنهار صلةٌ وجوديَّة راسخة يلهمها الحُبّ، ويحميها ضمير أخلاقي يقظ.  

الحُبّ استراحةُ الروح حين تأوي إلى ما يشاكلُها من أرواح. الحُبّ ‏الأصيل راحةُ الأرواح المتعبة بوصفه أعذبَ معنى يتذوقُه الإنسانُ في حياته. مهما كان الانسانُ ‏صغيرًا أو كبيرًا يحتاج الحُبَّ والدعمَ العاطفي. دورُ العاطفة في التربية والتعليم أكبرُ من دور العقل، إذا أراد المعلّمُ التأثيرَ الفَعَّال في أذهان تلامذته ومشاعرهم عليه أن يبدأ بتحفيز عواطفهم. الخلطةُ السحريَّة لمعادلة التربية والتعليم تغذّيها العواطفُ قبل العقل. متى ازدادت العواطفُ ازدادَ تحفيزُ المواهب وايقاظُ الوعي وإثراءُ المهارات، الاعترافُ بمنجز التلميذ والاعجابُ بجهوده وتشجيعُه إكسيرُ التربية والتعليم. ‏التاريخُ البشري صنعته العواطف مثلما صنعه العقل، بل كانت مساحة العواطف وتأثيرها أوسع.

عندما يُحبّ الإنسان عائلته ومَن يعيش ويتعامل معهم، فإنّهم ينجذبون للالتحام به، ويحفزهم على المبادرة بالعطاء؛ وتأمين المزيد من تضامنهم وتكافلهم، من دون حاجة إلى طلب أو رجاء. الحُبّ يتحكم بالإنسان، ولا يتحكم الإنسان بالحُبّ، وغالبًا ما يحدِّد الحُبّ خيارات الإنسان ويرسم مسارات حياته ويصنع مآلاته. الحُبّ حالةٌ لا تخضع خضوعًا قهريًا للعقل والإرادة، لا ينبثق الحُبّ دائمًا بطول المعاشرة، ولا بتمارين أو ارتياضات خاصة. كلُّ ذلك يمكن أن يساعد على تنمية الحُبّ وتجذيره، لكن لا يوجده إن لم ينبثق بذاته. للحُبّ طاقة تنصهر فيها عناصرُ نفسية وعاطفية وروحية قابلة للانصهار في مركب واحد، يثري الحُبُّ حياةَ الإنسان ويعزّز ثقته بنفسه، ويجعله قادرًا على خلق طموحات وأحلام جميلة تضيء آفاق غده اللا مرئية.

الحاجة لإيقاظ الشعور بالأمان والمحبة والتقدير من أعمق الاحتياجات في النفس الإنسانيَّة. المحبّةُ أقلُ بكثير من الكراهية، عواملُ صناعة الكراهية متعددةٌ ومتنوعة وكثيرة داخل النفس الإنسانيَّة وفي المحيط الذي يعيش الإنسانُ فيه، لا تصنعُ المحبّةَ إلا الأنفسُ النبيلة. قوة الإنسان في قدرته على توليد المعاني الروحيّة والأخلاقيّة والجماليّة لحياته وتنميتها وتغذيتها، المحبّة والإيمان من أغزر الروافد لتوليد هذه المعاني. كما لا يستغني الإنسان عن حاجات الجسد الأساسية لاستمرار حياته، لا يستطيع أن يستغني عن المعاني الضروريّة للشعور بالأمان والحماية من وحشة الوجود وهول غربته. 

الحُبّ الأصيل لا ترتقي إليه إلا القلوب السليمة من الأمراض. الاستثمار في الحُبّ يجعل الحياة تتسع لقبول المختلف والعيش معه بسلام. تضيق الحياة كلما ضاقت مساحة الحُبّ في قلب الإنسان، -مثلما تكتئب الحياة- ضاق فضاء الأمل والحلم والمتخيل في ذهن الإنسان.

الحُبّ الذي أتحدث عنه هو حُبّ صاحب الضمير الأخلاقي الصادق. هذا النوع من الحُبّ قوة لا ضعف، ثمرة حُبّ الأبوين للأبناء الرعاية والإيثار والتضحية. لا كنزَ أثمنُ في الحياة من محبّة قلب تصفو مودته. الحُبّ بلا ثقةٍ متبادلةٍ ولا شعورٍ بالأمانِ المتبادلِ زائفٌ. مَنْ كان صادقًا مع نفسه، صادقًا مع الناس، صادقًا مع ‏الله، ينبض قلبه بالمحبة والرحمة والحنان، وتتذوق الأرواحُ الصافية المحبةَ الإلهيَّة في كلماته. 

القلبُ الذي يعيشُ الحُبَّ لا تدركه الشيخوخة، حيثما يكونُ الحُبُّ يكونُ معنى الحياة. الحُبُّ يغيّر ما دام متوهجًا. في الحُبّ يتجلى أجملُ ما في الإنسان، وتنبعثُ منابعُ الخير المودَعةُ في أعماقه. في التربية والتعليم الحُبُّ يغيّر، يوقظُ العقلَ، ويروي المواهبَ، ويطوّر المهاراتِ، ويفجّر الطاقاتِ الكامنة. الحُبُّ يتكفلُ حمايةَ الإنسانِ من الشر الأخلاقي، عندما تتحدثُ لغةُ الحُبّ تصمتُ لغةُ الشر.