إشكالية التوازن بين الأمان الرقمي وتقييد الحريات

ريبورتاج 2024/12/05
...

 بغداد : سرور العلي

ما زال مشروع قانون جرائم المعلوماتية، مثاراً للجدل والنقاش العميق بين مؤيدين يرون فيه أداة لضبط الفوضى الرقمية وحماية المواطنين من الجرائم الإلكترونية المتزايدة، ومعارضين يرون فيه تهديداً للحرية الشخصية وتقليصاً لحق الأفراد في التعبير عن آرائهم بحرية.

وبينما يسعى القانون إلى توفير حماية للفضاء الإلكتروني، يشكك الكثيرون في كيفية تطبيقه دون المساس بالحقوق الأساسية التي يكفلها الدستور، ما يثير تساؤلات كثيرة حول التوازن بين الأمان الرقمي وحماية الحريات.

الهدف من القانون
في ظل الانتشار الواسع للجرائم الإلكترونية مثل الابتزاز الرقمي والاحتيال والتشهير عبر الإنترنت، جاء قانون جرائم المعلوماتية ليضع إطاراً قانونياً يُنظم نشاط منصات التواصل الاجتماعي في العراق. القانون يهدف إلى تحقيق السيطرة على الفضاء الرقمي الذي أصبح يشهد العديد من الأنشطة الإجرامية التي تهدد الأمن الاجتماعي، ويتضمن بنوداً تمنح السلطات صلاحية مراقبة الأنشطة الرقمية للمواطنين، إضافة إلى محاسبة من يثبت تورطهم في الجرائم الإلكترونية.

انتقادات قاسية
من أبرز المعارضين لهذا القانون الناشطة المدنية انتصار جبار، التي ترى أن بنوده "قابلة للتأويل" ويمكن أن تُستخدم لفرض رقابة مشددة على الأصوات المعارضة. وقالت جبار في تصريح لـ"الصباح" إنها تخشى أن يتم استخدام القانون "كأداة لإسكات الأصوات السياسية المختلفة" وفرض رقابة غير مبررة على المواطنين.
وأضافت أن القانون يُمثل تعدياً على خصوصية الأفراد، حيث يسمح بتدخل السلطات في تفاصيل الحياة الرقمية للأشخاص، وهو ما يتناقض مع المبادئ الديمقراطية التي يفترض أن تحترم في العراق.
كما أبدت جبار قلقها من أن يكون هذا القانون وسيلة لتصفية الحسابات السياسية، إذ يمكن استغلاله لملاحقة المعارضين السياسيين والنشطاء الذين يعبرون عن آرائهم على منصات التواصل الاجتماعي، مؤكدة أن القانون يحتاج إلى تعديلات ليتمكن من مكافحة الجرائم الرقمية دون المساس بالحريات الأساسية.
ويتفق العديد من منظمات المجتمع المدني مع هذه الرؤية، مؤكدين أن التحدي يكمن في وضع قوانين تحمي المجتمع من الجرائم الإلكترونية، وفي الوقت ذاته تحترم حرية الأفراد في التعبير.

إشكالية التوازن
في هذا الصدد، يقول الدكتور عبد الكريم خليفة، الباحث الاجتماعي والنفسي، أن تحدي التشريعات الإلكترونية في العصر الحالي لا يتمثل فقط في مكافحة الجرائم الإلكترونية، بل في كيفية الحفاظ على حقوق الأفراد وحرياتهم الشخصية دون التأثير عليها. وأوضح خليفة لـ"الصباح" أن "التكنولوجيا أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية، إلا أن الاستخدام المفرط أو غير المنضبط قد يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية. لذا لا بد من توعية المستخدمين حول كيفية التعامل مع هذه المنصات بشكل مسؤول وآمن، وضرورة فهم الحدود التي يمكن فرضها على استخدامها".
ورغم أن الهدف من القانون هو تنظيم الفضاء الرقمي وحماية الأفراد من الجرائم، فإن خليفة يرى أن فرض قيود صارمة قد يؤدي إلى نتائج عكسية، موضحاً بالقول: "يجب أن نضع قوانين لتنظيم استخدام التكنولوجيا، ولكن من دون أن تتحول هذه القوانين إلى قيد يحد من حرية التعبير وحقوق الأفراد الأساسية"، محذراً من أن الرقابة المفرطة قد تزيد من القلق الاجتماعي وتؤدي إلى الانعزال الرقمي، ما يؤثر في قدرة الناس على استخدام منصات التواصل بشكل إيجابي.
بدورها، أكدت الحقوقية أنوار الخفاجي في حديثها لـ"الصباح" أن وجود قانون لمكافحة جرائم المعلوماتية يعد ضرورة ملحة في العصر الرقمي، مشيرة إلى أهمية أن يكون هذا القانون متوازناً بحيث يحمي حقوق الأفراد ويعزز الأمن، دون المساس بالحريات الأساسية.
وأوضحت لـ"الصباح" أن القانون يجب أن يتضمن تعريفاً واضحاً لجرائم المعلوماتية مثل القرصنة، والاحتيال الإلكتروني، والابتزاز، مع فرض عقوبات رادعة تتناسب مع خطورة الجرائم.
كما طالبت الخفاجي بأن يتضمن القانون آليات واضحة للتبليغ عن الجرائم الإلكترونية، مع توفير حماية كافية للضحايا، مضيفة أن التوازن بين الأمن والحرية يجب أن يكون أولوية، مع ضمان عدم المساس بحرية التعبير والحقوق المدنية.
وأكدت الخفاجي ضرورة أن تكون هناك شفافية في تطبيق القانون، بحيث يعرف المواطنون حقوقهم وواجباتهم، مشيرة في الوقت نفسه إلى أهمية وجود آليات للمراقبة والتقييم لضمان عدم استخدام القانون كأداة للقمع، مع التأكد من توافقه مع المبادئ الدستورية، بما يتيح للمواطنين الطعن في أي انتهاكات محتملة. كما أكدت ضرورة إشراك المجتمع المدني في صياغة القانون لضمان تلبية احتياجات جميع الأطراف.

تحديات القانون
تقول الدكتورة سرى غضبان، من مركز الأمن السيبراني في مستشارية الأمن القومي: "في ظل التطور التكنولوجي المتسارع في الفضاء الرقمي، يواجه العالم بشكل عام والعراق بشكل خاص تحديات كبيرة في صياغة قوانين تواكب حجم التهديدات الجديدة".
وأكدت أن "العراق يسعى إلى تحديث التشريعات الخاصة بجرائم المعلوماتية لتتلاءم مع الواقع التكنولوجي المعقد، وتنظيم أطر قانونية لمكافحة الابتزاز الإلكتروني المتزايد، إلى جانب تنظيم عمليات الدفع الالكتروني وحماية استراتيجية التحول الرقمي التي تسعى الحكومة إلى تنفيذها.
وأضافت غضبان أن هذه التحديات تشمل التصدي لكل أشكال الجرائم السيبرانية التي أصبحت تهدد الأمن الرقمي في مختلف القطاعات، إضافة إلى إصدار تشريعات تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن حماية الملكية الفكرية وحقوق الخصوصية، مع تحديد المسؤوليات القانونية بشكل واضح.
كما يتطلب الوضع بحسب غضبان، إصدار قوانين تحمي البنية التحتية الرقمية من الجرائم العابرة للحدود، وتنظيم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بما يضمن الحفاظ على البيانات والمعلومات الشخصية، فضلاً عن التصدي للحملات الرقمية المضللة التي تزداد تأثيراً في العصر الرقمي.

تعديل القانون
من جانب آخر، يوضح النائب محمد حسن الشمري، عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، أن قانون جرائم المعلوماتية تم سحبه من قبل الحكومة، بغية إجراء تعديلات عليه. وأكد الشمري لـ"الصباح" أن القانون كان بحاجة إلى ضوابط صارمة تحدد كيفية استخدام منصات التواصل الاجتماعي، خاصة في الحالات التي يُستغل فيها الإنترنت لدعم توجهات إرهابية أو نشر خطاب كراهية.
وأشار الشمري إلى أن التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد صيغة قانونية توازن بين حماية الأمن الرقمي وحماية الحقوق الأساسية للمواطنين في التعبير والمشاركة السياسية. كما شدد على ضرورة استكمال دراسة تجارب الدول الأخرى التي طبقت قوانين مشابهة قبل اتخاذ أي خطوات نهائية.

القانون والديمقراطية
يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن للعراق أن يحقق توازناً بين الأمن الرقمي وضمان الحريات العامة؟ وفي هذا السياق، يشير الكثير من الحقوقيين إلى ضرورة تعديل بنود القانون الحالية، لتجنب أي تأثير سلبي في حرية الرأي والتعبير، وهو ما يشكل جوهر الديمقراطية.
ويشير الخبراء إلى أن هناك حاجة ماسة لتشريع قوانين إضافية تضمن حق المواطنين في الوصول إلى المعلومات بشفافية، مثل "قانون حق الحصول على المعلومة"، الذي من شأنه أن يعزز دور المجتمع المدني في مراقبة التشريعات ويضمن أن تتم عملية المراقبة بشكل ديمقراطي وعادل.