د. خيرالله سعيد
ذات مساءٍ دمشقي، ونحن في موسم الصيف من عـام 1984، وكنتُ عـائداً للتـو من بلغـــاريـا، وقـد أنهيت عـلاقتي مع ح . ش . ع، للسببٍ أو لآخر، كان بصحبتي الراحلان مظفر النـواب وجمعـة الحـلفي، ونحن جالسون في " المطعم العمـالي" الكـائن خلف سينمـا السفراء، وسط
المدينة .
لا أعرف كيف انساقت بنـا الأحـاديث الشعرية، ورحـنـا نتحدث بالقصائد الـذاتية، والتي فيهـا بعض آهـات الجـروح، فقرأت بعض قصائدي القديمة، وكــذلك قرأ العـزيز الراحل جمعة الحلفي قصيدتـه (مليت ) ومظفر النـواب لم يقرأ شيئـاً، وكـأنه أراد الإستماع إلينـا فقـط، فقرأت أنـا بعض قصائدة الرائعة مثل ( قصيدة سعود ) ( وجنح اغـنيدة ) وقرأ جمعة أيضـاً بعض قصـائد النـواب الغزلية، وخصوصـاً قصيدة (روحي ) وقد تفـنـن بإلقـائهـا . وبعـد فترة قصيرة قال النـواب : سمعت من أحـد الأصدقاء قصيدة قديمة للشاعر ( محسن الخيـاط) وعـنوانهـا " أنـا المامش وراهـا اجـنازتي اصياح" هل أحـدٌ منكم يحفظهـا ؟ قلنـا لا، ولكن سوف نبحث عنهـا عند بعض أصدقائنـا من حفظة الشعر الشعبي، وهـم كثر، ومتواجدون معنـا في الشام، وانفضَ مجلسنـا على أمل أن نلتقي في الإسبوع القادم.
في اليوم التـالي، وكعادتي الصباحية أذهـب إلى “ المكتبة الظـاهرية – وأجلس في قـاعة البـاحثين – زارني هـناك بعض الأصدقاء، فجلسنـا في فنـاء المكان الواسع، خارج القـاعة، وكان من بين هـؤلاء شخصٌ لم أتعرف عليه من قبل، ولهـجتـه الفراتية غالبة عليـه، فقلتُ في نفسي، هـذا من أهـل الحـسـچـة ) وفعلاً كان من أهـل مدينة " المشخـاب" وبدأت معه بالحديث حول أحوال تلك المنـاطق، وبدأت حديثي معه في بيت دارمي، فـرد علي في بيت دارمي أيضـاً، فقلت فيمـا بعـد : هـل تعرف قصيدة الشاعر " محسن الخيـاط" أنـا المامش وراهـا اجنـازتي "اصياح" فقـال : عِـد عينـاك، حافظهـا كلهـا، قلت لحظة واحدة، حتى آتي بورقة وقلم من داخل حقيبتي الموجودة في قـاعة الباحثين، ونهضت فأتيت بدفترٍ خـاص كنت أجمع فيه " الفرائد" الجميلة والنـادرة من ( التراث الشعبي والفصيح ) فبـدأ يقرأ وأنـا أُسجل
ما يقول :
أنـا المـامش وراهـا اجـنـازتي اصيــاح
أنـا شــــو گ الغـريـب الـﮔـــرب ولاح
أنـــا حـسـرة هــــذاك الأ يّس وراح
تـعنـيت اليـخـوف و چـلمتي اسلاح
أنا العَـن الشمـاتـة بوجعــته ارتـاح
أنـا الكلمـا تحصده يــردلـه ســبـاح
ذهب من زيج حلوة وبالدرب طاح
هُوا اعـذيبي اعلى روح الشكرساح
يـلمضيعين عُـمري هـنا يـل اوكـاح
أجـر باللـيل چـــن مجــرار مـــلاح
يَـطِـلاع البَـعَـــد مـا ضـاﮔـته الـﮔـاح
يفيـضة ونـخـمـنـها خـيـــام قِــــداح
يسـلطـان الحبـاري الفـارش اجـناح
يماي الطلع صدره وطـفطف وساح
رهـم عشـﮔـك عليـه ارهـام مفتــاح
ونـا وهـمـيّ عـرايـا اثنين بوشــاح
ﮔـصت روحي اعلى جرحي ولحت الحـاح
إخـذني بطيبتـك يا ريــــــع مسطاح
تِـعِـــت بيّــه ومـرامي بيـاكتــر داح
أجر وحده أعلى وحده ابميمر انياح
نمت وﮔـفة شـﮔـف عن لـچـم الِ اصفاح
تِـهِـتْ والْ خوفوني طــلعـوا اشباح
أداور بالمـرادي وﮔـيش مـا صــاح
عِـلت هـامة الخـورة ولا كو مــلاح
يهـل تحلب بروحي منـيلهـا امـنـاح
هِـلِـب ويدوخ بيـه ﮔـيّـاض الارواح
أنا المامش وراهـا اجنازتي اصياح
القصيدة، يبدو أنهـا نُظمت على وزن النصاري – الوافر ( مفاعـلتن مفاعلتن فعـولن ) بقافية واحـدة وليس بقـافيتين، وهـذا نـادرٌ، حيث إن "قصيدة النصاري" عادة ما تُـنظم بقافيتين ووزن واحـدٌ، لكن الشاعر أراد أن يجسّـد شيئاً من لوعة المـرارة التي تعتريه، فنظمهـا بهـذا الشكل، كي تكون أقرب إلى النـواح، وأن يفرض على المـؤدي طابع الحـزن، الـذي يلف القصيدة بكامل أبيـاتهـا،عند الإنشادِ أو الغـناء، حيث أن البيت الأول من القصيدة، يضجُ بالنـواحِ والعويل، وكأن الشاعر يستحضر ساعة موتـه،وهـو يرقب "جنازته" وهي تسير لوحدهـا دون معزيّـين، إذ أن مسارات حياته تكاد أن تكون " دُرامـا متوالية" من بيتٍ لآخر، حتى أن البيت 3 يشيء بـذلك الوضوح ( أنـــا حـسـرة هــــذاك الأ يّس وراح ) وعلى هـذا المنوال الدرامي تتابع القصيدة إيقاعاتهـا الحزينة، ويشتد هـذا التفاعل في البيت رقم ( 20 ) حين يقول ( أجر وحده أعلى وحده ابميمر
انياح ) .
وهـذه القصيدة، نـادرة المثـال في الفجيعة والمـأساة، وهي حالة خاصة تمثل ما يشعر به هـذا الشخص الحـسّـاس، فجـسّـد واقع مأساته بهـذه القصيدة، والتي تحتاج إلى تـأمل عـالٍ من الدقـة والمتـابعـة في كل بيت من أبيـاتهـا، وهي واحدة من عيون الشعر الشعبي
العراقي.