أحداث 2024 والمشهد العالمي
لقمان عبد الرحيم الفيلي
شهد عام 2024 سلسلة من الانتخابات المهمة ومحورية على الصعيدين الوطني والدولي، الذي أدى لتغيير قيادات دول ومنظمات عالمية، ما جعله عاماً حاسماً لاختبار مسار الديمقراطية والتوجهات السياسة العالمية، اذ تم تحديث موازين القوى وساعد على صعود لاعبين جدد، وإضعاف قوى تقليدية أخرى. أبرز هذه الانتخابات كانت انتخابات الرئاسة الأمريكية، حيث فاز الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب على نائبة الرئيس الديموقراطي كامالا هاريس، مما جذب اهتماماً عالمياً نظراً لتأثير نتائجها على السياسات الدولية، بالإضافة إلى ذلك، شهدت دول كثيرة مثل الهند والاتحاد الأوروبي وروسيا والمملكة المتحدة لانتخابات رئاسية وبرلمانية، مما يعكس حراكاً سياسياً مهماً في ساحات متعددة.
من الضروري للمراقبين والسياسيين فهم هذه الموازين الجديدة والتعقيد المرابط بمتغيرات الاحداث والساحات، كون العالم اليوم متشابكا وارتدادات الاحداث على الساحات المجاورة والبعيدة سريعة، ناهيك عن ان النتائج غير المحسوبة لهذه الاحداث كثيرة وخطيرة، غير ناسين أن المتغيرات الأمريكية مثلاً ستكون لها ارتدادات مباشرة على كثير من الدول ومنها العراق ودول الشرق الأوسط.
- الاحداث كشفت عن نشوء معالم جمهورية جديدة في الولايات المتحدة، آخر تحديث كبير لماهية الولايات المتحدة حصلت مع دخولها للحرب العالمية الثانية، ماهية موازين القوى داخل الولايات المتحدة، تمر بحراك علني وخفي كبير، وخصوصاً بين قوى الدولة العميقة واللاعبين الجدد، وعليه سنرى "الترمبية" في صعود، وحماية الدولة العميقة من "الترمبية" وتداعياتها أمرًا ضروريًا للطرف الآخر.
- بمعزل عن درجة أو سعة تدهور/ تراجع/ انكفاء/ انطواء الولايات المتحدة الامريكية، فإن مقومات قوتها (مال، عسكرة، أمن قومي جغرافي في مأمن، تعداد سكاني ثابت، تحكمها بتكنولوجيا جديدة والقادمة)، كثيرة وعميقة وعليه استكشاف واستشراف أسباب ضعف هيمنها أتت نتيجة ظروف موضوعية (حربي العراق وافغانستان)، فهل هذا الحراك الجديد لنشوء جمهوريتها الجديدة ستقلل من دورها العالمي رغبةً أم اجباراً؟ وهل ترغب بعد اليوم بلعب دور امبريالي كما عملت بعد الحرب العالمية الثانية؟ أم أن ماهيتها الجديدة ستفرض عليها الانطواء والسعي لخلق موازين قوى جديدة تعتمد على التكنولوجيا اكثر من الاعتماد على العسكرة وبناء وإدامة قواعد عسكرية مختلفة حول العالم؟.
- بمعزل عن درجة صعود الصين كقطب ثان، وخصوصاً عسكرياً واقتصادياً، فهل لديها برامج وطموح للهيمنة على العالم وأن تكون امبريالية (بالمعنى الكلاسيكي)؟ ام ستكتفي بتأمين أمنها الإقليمي ورفاهية مجتمعها وإشباع شعورها بالعدالة وإغلاق ملف "مئة عام من الذل"؟ هنا من المفيد أن نبين بأن الولايات المتحدة كانت الرقم الاقتصادي الأول بحلول عام 1890 لكنها لم تتصد لقيادة المشهد العالمي، إلا بعد نصف قرن نتيجة دخولها للحرب العالمية الثانية.
- في خضم الحرب الباردة وهيمنة القطبين (الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة)، ولدت حركة عدم الانحياز لوجود قادة تاريخيين وسعي دول نامية حتى لا يختطف مشهدها. الآن العالم يفتقر لهكذا قيادات، إذ لا توجد زعامة عالمية واضحة. نعم لدينا تجمعات وتكتلات ضد الغرب أو معادية لها، ومنها دول الجنوب العالمية، لكن هؤلاء لا تجمعهم أيديولوجية أو رؤى مشتركة حول ما يجب ان يحصل لإعادة التوازن الدولي والتنمية المستدامة لجميع البلدان، وخصوصاً التي تسير نحو الصعود.
- عندما نراقب الأحداث ومجرياتها في أوروبا نستكشف أن الكشف الصحي الأمني والقيمي والاجتماعي والاقتصادي الأوروبي، يمر بعدة أزمات، بعضها ذاتية وبعضها ارتدادات مباشرة، فهي من جهة تريد باتحادها أن تفرض نفسها كقطب ثالث ومن جهة أخرى تمر بأزمات (سكانية، هوية، هجرة غير شرعية، صعود اليمين، ضعف مصادر الطاقة، الخ) داخلية مختلفة تمنع ذلك، وهذا الحراك يحصل وهي تشعر بخطر أمني مباشر (روسيا وما يحصل مع أوكرانيا) وتسعى للسيطرة على أمنها بيدها من دون الاتكال الكامل على مظلة الولايات المتحدة
الامريكية.
- العالم كله يمر بمرحلة انتقالية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وامنياً، وموازين القوى التي حددت معالم السياسة بعد الحرب العالمية الثانية وصعود القطبين، وكذلك بعد سقوط جدار برلين عام 1991 واستفراد الولايات المتحدة وهيمنة القطب الواحد، امام تحد كبير.
- تذكرنا التفاعلات الحالية بالمشهد الدولي قبيل الحرب العالمية الأولى، ففي حينها كان الترابط والعلاقة بين القوى الاوروبية وغيرها، قوية ومتينة، إلا أن مسار الأحداث لم يتم التحكم به وكأن البلدان كانت تسير نحو حرب من دون وجود إرادة لإيقافها، والوصول إلى تفاهمات سياسية تمنع الحرب واتساعه وفقدان السيطرة عليه، فتحركات الطبقات الأرضية (الجيو-سياسية) و(الجيو- اجتماعية) و(الجيو-تكنولوجية) و(الجيو- اقتصادية) تحتنا كثيرة، ولا توجد الآن إرادة لإيقافها أو السيطرة عليها، من جانب آخر لا يوجد قرار عالمي لحرب إقليمية أو عالمية، وعليه نحن في بيئة مشابهة لأجواء الحرب العالمية الأولى بمسار نحو حرب من دون قرار
لذلك.
- كانت عملية طوفان الأقصى/ غزة وقبلها احداث أوكرانيا وقبل ذلك جائحة كورونا أقرب إلى عملية فحص طبي لصحة الجسد العالمي، الجائحة كانت كشفا صحيا للعولمة ووحدة الساحات وترابطها، وأوكرانيا كشفا صحيا بين زيف ادعاءات الكثير من دول الغربية، وغزة وتداعيات طوفان الأقصى كان كشفاً صحياً قيمياً. الأحداث كشفت عن وجود فقر قيمي عند الكثير من الحكومات، مقابل غنى وحيوية الشعوب في تفاعلها وتعاطفها مع المضطهدين في غزة وفلسطين. فالأزمة الأوكرانية مثلاً سلطت الضوء على تناقضات في مواقف الغرب، التي وُصِفت بالنفاق من قبيل ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمات الدولية والانتقائية من السيادة الوطنية، والتي أدت إلى تآكل الثقة من قبل الكثير من دول الجنوب في مصداقية النظام العالمي، الذي تهيمن عليه القوى الغربية، غير ناسين أن الازمة الأوكرانية دخلت كعنصر مباشر في رسم تفاهمات روسية صينية على حساب علاقتهما مع القطب الامريكي.
- كشفت الأحداث الاخيرة، وخصوصاً عملية طوفان الأقصى وما تلاها، عن نشوء جمهورية جديدة في الكيان الاسرائيلي، هذه الجمهورية بماهيتها الجديدة، كشفت عن تحولات جوهرية في بنية المجتمع الإسرائيلي بملامح مغايرة تكتسب يومياً مقومات قوة وضعف ستكون بنيوية وذات أثر مباشر على بقاء الكيان، من عدمه، وأمن المنطقة بأسرها، تجلت هذه التحولات في عدة معالم منها تصاعد التطرف السياسي، وتآكل الثقة بالمؤسسة العسكرية، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتزايد العزلة الدولية بدرجة كبيرة مع شراسة في تعاملاتها الخارجية.
- التحديات الإقليمية كثيرة، وتحتاج منا نحن العراقييين وأبناء المنطقة أن نركز على حلها، مع وضع خارطة طريق منطقية وواقعية. فهناك نافذة صغيرة لترتيب أوراقنا، وهنا ضروري ألّا نعول على العم سام أو الطموح الصيني أو ضعف/ قوة روسيا، فدروس سايكس بيكو وضعف إدارة شعوب ودول المنطقة غنية بالمراجعة.
- الجمهورية الإسلامية في ايران من جانبها تريد تقوية علاقتها مع دول الخليج، ولكن المطلوب منها الآن تغيير بعض الشيء في هويتها أو ماهيتها وهي تجد صعوبة في ذلك، من جانب آخر دول الخليج، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، تريد ايضاً أن تقوي علاقتها مع الجمهورية الإسلامية، ولكنها هي ايضاً تحتاج أن تغير من منهج تعاطيها التاريخي مع الجمهورية الإسلامية، الخلافات ثقافية أكثر من أي شيء آخر، وعليه فالصبر واستمرار التواصل مع بعضهم البعض هما من أهم سبل العلاج لحل المشكلات وتقليل التوتر بالمنطقة وادارة ملفاتنا بأيدينا.
- ضروري نحن كعراقيين وأبناء دول المنطقة ألّا نضيع في سوء فهم التحولات، وانتقال العالم من أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب، من دون وضوح قوة هذه الاقطاب ومدى طموحها وقدرتها على التحكم بالمشهد العالمي، ممكن جدا، بحواراتنا وبحثنا عن المشترك وهو كثير، أن نخلق من منطقتنا كيانا متجانسا متصالحا مكملا بعضه لبعض.
- العراق من جانبه يريد أن يكون جسرا ووسيطا بين دول المنطقة، نتيجة موقعه الجيوسياسي المتميز وثرواته المتعددة، لكنه في الوقت ذاته يعاني من تحديات داخلية، فمن جهة يسعى لأن يتعافى ويقوي دوره نتيجة مقبوليته، ومن جهة أخرى يحتاج أن يرتب أوراقه الداخلية ويتحكم بسيادته على جميع الأصعدة، هذا يحصل ونحن ندخل عام انتخابات نيابية اتحادية جديدة، من المهم أن ندرك خطورة وحساسية المشهد العالمي وضرورة أن تنتهي هذه الانتخابات وتشكل الحكومة بسرعة وبانسيابية، فأبناء المنطقة ينتظرون تعافي العراق وعودته لممارسة دوره الإيجابي والفعال.
- تميز عام 2024 بكونه عام الذكاء الاصطناعي بفضل التطورات الكبيرةـ التي حدثت في مجالات متعددة، ما جعله محور الاهتمام العالمي، إذ شهد العالم تقدما غير مسبوق في التقنيات والتوسع في التعلم الآلي والتطبيقات الاستهلاكية في قطاعات مهمة مثل الصحة والتعليم، إضافة إلى استخدامها بطريقة مؤثرة جداً في قطاعات السياسة والأمن والعسكرة، بل حتى في الصراعات الجيوسياسية. وعليه عام 2024 أصبح عاماً فارقاً في مسيرة الذكاء الاصطناعي، لأنه شهد تزاوج الابتكار التكنولوجي مع التطبيقات العملية، وانتقاله من تقنية ناشئة إلى قوة مهيمنة تشكل مستقبل الاقتصاد والمجتمع والسياسة والأمن والعسكرة.
- عام 2024 كان عاماً قاسياً جداً على أشقائنا في فلسطين ولبنان، اذ يشهدون معاناة إنسانية مستمرة نتيجة العدوان الإسرائيلي، الذي يضرب بعرض الحائط كل المواثيق والقوانين الدولية والإنسانية. في فلسطين، يتعرض شعب بأكمله للاحتلال والقمع، حيث تُهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، وتُنتزع الأراضي، ويعيش الأطفال والنساء العزل في ظل الخوف والجوع. وفي لبنان، كرر العدوان الإسرائيلي جرائمه بقصفٍ دمر البنية التحتية، واغتيال قادته وزرع الألم في قلوب الأبرياء. ورغم الألم والمعاناة والابادة الجماعية، يظل شعبنا في فلسطين ولبنان رمزاً للصمود، حيث يقف في وجه الاحتلال متحدياً الظلم، حاملاً آمال التحرر والكرامة، ومذكراً العالم بضرورة الانتصار للعدالة وإنصاف
المظلومين.
- الاحداث في الجارة سوريا من الضروري أن نفهمها كجزء من فهم التحولات الجيوسياسية، التي شهدتها المنطقة، وعن كيفية تداخل الأحداث الإقليمية مع النظام العالمي ومدى تأثيرها في التوازنات القائمة، فهي تشير من جهة إلى فقدان سيطرة الدولة وتأثير اللاعبين غير الدوليين وتدخلات قوى إقليمية ودولية لدعم أطراف سورية وإقليمية مختلفة، ما أدى إلى تعقيد الأزمة وتفاقمها، وعليه يمكن أن نقول إن الأزمة، والتي ستدخل قريباً عامها الخامس عشر، كشفت عن اختلالات النظام الدولي وسلطت الضوء على إخفاق المجتمع الدولي في التعامل مع النزاعات المعقدة، سواء من خلال الأمم المتحدة أو التحالفات الدولية، مع تصاعد الانتقادات حول ازدواجية المعايير والتدخلات المتناقضة.
- ونحن على اعتاب عام 2025 هناك سؤال استشرافي بشأن إن كان هذا العام الجديد يدفعنا نحو مشهد ديستوبي (مجتمع مخيف غير مرغوب فيه) أم مشهد يوتوبي (مجتمع مثالي يعيش في سلام ووئام)؟ الجواب سيعتمد على مدى تعلم القادة من دروس التاريخ واستعدادهم لتقديم رفاه وأمن شعوبهم على مصالحهم، أو سوء تقديرهم لنوايا وتصرفات الآخر العدو أو الغريم، ففهم الواقع ضرورة ومن مستلزمات الحكمة في الحكم. فمن السابق لأوانه أن نفهم دوافع أو نوايا بعضنا البعض، ولكن دعونا على الأقل نعيد فهمنا لفرضياتنا الكلاسيكية، ونسعى لنفهم تصرفات بعضنا البعض، كي لا نجر دولنا والمنطقة لحراك وصراع عسكري لا نعرف مدياته
لا سمح الله.
*سفير جمهورية العراق في ألمانيا