بريان ستون جونيور*
ترجمة: مي اسماعيل
أدركت الحضارات منذ عدة قرون قابلية المدن على تبريد أو تسخين أجوائها. ففي روما القديمة، دعا معماريوها إلى تضييق الشوارع لخفض درجات الحرارة خلال فترة ما بعد الظهر؛ إذ أن الشوارع الضيقة تحد من المساحات المُعرّضة لأشعة الشمس المباشرة. وتكشف عمارة المدن الاغريقية القديمة ذات الحجارة البيضاء ممارسة مناخية قديمة اخرى؛ إذ أن الجدران والأسقف فاتحة الألوان تعكس أشعة الشمس الساقطة عليها بعيدا.
في المناطق ذات المناخ الساخن الرطب جنوب الولايات المتحدة الاميركية اقترح توماس جيفرسون مقاربة أُخرى لتبريد المدينة: أن تقوم كافة المستوطنات الجديدة بتطبيق نمط تداخل بين كتل المدينة ذات البناء المتراص مع مساحات لغطاء نباتي كثيف منتشر. وهذا من شأنه ان يُقوّي مبدأ التبريد بواسطة حركة الحمل الحراري للهواء ما بين المناطق الباردة والدافئة.
يقول كاتب المقال في كتابه الأخير إن: "التكيف الجذري هو تحويل المدن لتتلاءم مع عالم متغير المناخ"؛ لكن المدن تعمل عن غير قصد على رفع درجات حرارتها بنفسها؛ لتخلق ما يُسمى "تأثير جزيرة الحرارة الحضرية
-Urban Heat Island Effect".
المدن تُسخّن نفسها
ترتفع درجات حرارة المدن بفعل ممارسات سكان تلك المدن ذاتها، مثل قيام المستثمرين بقلع الأشجار لإفساح المجال للمباني والسيارات. وحينما تختفي المظلة النباتية تقل المساحات المظللة وإطلاق بخار الماء البارد من الأوراق عن طريق عملية النتح. ويأتي التشييد الحضري ليزيد من زيادة نسبة الحرارة؛ إذ يمتص الإسفلت والخرسانة ومواد الأسقف الداكنة حرارة الشمس مؤديا إلى تسخين البيئة المحيطة بها. كما تتفاقم الطاقة الشمسية التي تمتصها المباني بسبب الكميات الكبيرة من الحرارة المهدورة المنبعثة من العمليات الصناعية وعوادم المركبات وأنظمة تكييف الهواء. أما مناطق المباني العالية، فتحتجز فيها الحرارة المنبعثة من الشوارع ومواقف السيارات داخل الأخاديد الخرسانية، لتزيد من ارتفاع درجات الحرارة.
بجمع هذه العوامل يتضافر معا لرفع درجة حرارة المناطق الحضرية بنحو 11 درجة سليزية صيفا خلال فترة بعد الظهر؛ وهو تحول كبير في الطقس ناتج عن تدخل الإنسان، ويمكن أن يشكل خطرا صحيا خطيرا على من يفتقر إلى تكييف الهواء. واقترانا مع تصميم البيئة المبنية، فإن التضاريس الطبيعية للمدينة يمكن أن تؤدي إلى إبراز فروق درجات الحرارة من حي إلى آخر. فمثلا، تعمل التلال وأنماط الضباب في سان فرانسيسكو باستمرار على تقسيم أحياء المدينة إلى مناطق مناخية واضحة. كما أن الاستخدام المكثف لأنظمة الري في المناخات الحارة والجافة يؤدي إلى انخفاض درجات حرارة المناطق الحضرية مقارنة بالصحراء المحيطة بها؛ وهو ما يشار إليه أحيانا باسم "الجزر الحضرية الباردة".
إبطاء الاحتباس الحراري
توفر تحليلات مدى قدرة المدن على تسخين نفسها أدواتٍ قوية لتبريد تلك المدن؛ في ظل الاحتباس الحراري العالمي الناجم عن الأنشطة البشرية. فمن الضروري عمل المدن على خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي بشكل قوي حتى تتوقف ظاهرة تغير المناخ على نطاق عالمي. تشكل المناطق الحضرية على مستوى العالم؛ بصناعاتها ومركباتها ومبانيها؛ أكثر من سبعين بالمئة من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري الناجمة عن استخدام الطاقة، كما أن تعداد سكانها ينمو بسرعة. وحتى تخفيضات انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري المنسقة دوليا سوف تتطلب عقودا عديدة لإبطاء اتجاهات الاحتباس الحراري بشكل محسوس؛ وبالتالي فإن المدن ستحتاج إلى التكيف مع ذلك. كما يمكن للمدن أن تعمل على إبطاء وتيرة اتجاهات الاحتباس الحراري الناجمة عن ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية؛ باتخاذ خطوات بسيطة في بعض الأحيان. وتُظهِر الأبحاث أن الفوائد الصحية المترتبة على الحد من ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية قد تكون كبيرة ذات قيمة كبيرة.
يتعاون مختبر المناخ الحضري التابع لمعهد جورجيا للتكنولوجيا مع حكومات المدن لتقدير إمكانات التبريد التي توفرها عملية إدارة الحرارة الحضرية. وللقيام بذلك، يجري قياس الفوائد الصحية المباشرة المترتبة على إجراءات توسيع الغطاء النباتي والبنية الأساسية الخضراء الأخرى واستخدام مواد تدعم التبريد للطرق والأسطح.
دعم المظلة النباتية
أظهرت دراسات المختبر أن زراعة الأشجار على نصف المساحة المتاحة لدعم المظلة النباتية؛ في مناطق مثل الشوارع الطويلة ومواقف السيارات والساحات السكنية؛ يمكن أن يخفض مستويات الحرارة صيفا بمقدار نحو ست درجات مئوية؛ مما يقلل الوفيات المرتبطة بالحرارة بنسبة 40- 50 بالمئة في بعض الأحياء. واعترافا بتلك الفوائد الكبيرة، حددت مدينة نيويورك هدفاً ونجحت بتحقيقه، بزراعة مليون شجرة في مختلف مناطقها الإدارية الخمسة.
كما يمكن أن تساعد مواد التسقيف الباردة والأسطح ذات الألوان الفاتحة أيضا بخفض درجة الحرارة؛ أذ أن مواد البناء ذات الألوان الفاتحة وطلاءات الأسطح تعكس كمية أكبر من الحرارة الشمسية الساقطة عليها مقارنة بالألوان الداكنة، وتمتص كمية أقل من تلك الحرارة. لذا فهي فعالة بشكل خاص لدرء حرارة النهار عندما تكون أشعة الشمس أقوى. وللاستفادة من هذا التأثير المُبَرّد، أصبحت لوس أنجلوس عام 2013 أول مدينة كبرى تشترط على جميع المنازل الجديدة استخدام مواد أسطح باردة.
ما يمكن فعله الآن
يمكن للاستراتيجيات "الهجومية" أن تُقلل بشكل كبير من ارتفاع درجات الحرارة بالمناطق الحضرية؛ ومن تلك الاستراتيجيات: زيادة الغطاء الشجري الأخضر بجميع أنحاء المدن، والتحول السريع إلى مواد تسقيف باردة، وحتى استبدال بعض ممرات وقوف السيارات في الشوارع وغيرها من المناطق غير المستغلة بالـــ"الخنادق العشبية (قنوات خطية مزروعة بالنباتات تسمح بتجميع مياه الأمطار ونقلها وتصفيتها وتسربها إلى الأرض. المترجمة). وبذلك يمكن أن تزداد قدرة المدينة على الصمود بمواجهة الحرارة.
أظهرت تقييمات مخاطر الحرارة الحضرية التي أُجريت في العديد من المدن الأمريكية أن الجمع بين استراتيجيات إدارة الحرارة الحضرية يمكن أن يخفض درجات حرارة الأحياء السكنية بنحو ست درجات مئوية تقريبا، ويقلل الوفيات المبكرة المرتبطة بالحرارة بنسبة 20 إلى 60 بالمئة.. فالمدينة الأكثر برودة هي مدينة أكثر أمانا، وتقع ضمن نطاق قدرة المجتمعات المحلية على إنشائها.