بحيرة ساوة تطوي أسرارها مثقلة بالإهمال والجفاف
نافع الناجي
تمتلك بحيرة (ساوة) كنزاً هائلا من الأسرار، ربما لم يتمكن أحد من فك مغاليقه أو الاستدلال إلى رموزه منذ مئات السنين وحتى اليوم، فهذه البحيرة (اللغز) الواقعة إلى الغرب من مدينة السماوة، تحيط بها الأسرار والغرائب من كل صوب، وقد ننتظر عقوداً حتى نصل إلى مفهوم واضح يشرح لنا تفاصيلها. لكن (ساوة) الآن جفت تماماً ونضبت مياهها، وهي بحاجة ماسة إلى جهود كبيرة لإعادة الحياة إليها من جديد.
أسرارٌ وكشوفات
يطلق العراقيون على هذه البحيرة ذات المعالم الطبيعية الغريبة اسم (لؤلؤة الجنوب)، وأحد أسرارها أنها لا تتغذى من مصدر مياه واضح وثابت، فهي لا تتصل بأي نهر أو بحر، رغم أن هناك من يعتقد أنها متصلة بالبحر الأحمر، وهناك من يعتقد أنها متصلة إلى حد ما نتيجة لحركة الأمطار بحوض الدمام، وهناك من يعتقد أنها ربما متصلة بأودية وتجاويف الباطن للصحراء الغربية وتتغذى منها، لكن لا دليل قطعياً على كل تلك المقولات.
لكن الباحث الأكاديمي والإعلامي عدنان سمير دهيرب، يؤكد
لـ (الصباح) أن "بحيرة ساوة تتغذى من خمسة ينابيع داخلية بقاع البحيرة، وتبلغ نسبة التبخر السنوي فيها (3000 مل)، ورغم ذلك فإنها كانت محافظة على منسوب مياهها"، ويضيف "كان موج مياه البحيرة يرتطم بسور كلسي من الأملاح والرمال حتى أصبح مرصوصاً كحجر على حجر، مع تقادم السنين والأيام. فهي كالصحراء المحيطة بها هادئة مستقرة مكتنزة بأسرارها".
ويعلل العلماء سبب ذلك بأن للبحيرة خاصية الترسب السريع للأملاح، ما يجعلها على الدوام ذات
قابلية على غلق أي شرخ أو ثغرة تحدث فيها، وبالفعل فإن المعنيين قاموا قبل بضع سنوات بحفر خندق
أو نهر صغير يمتد من البحيرة إلى الصحراء المجاورة، غير أنه حافظ على حجمه وأحيط بطبقات كلسية تمنع توسعه بفعل كبريتات الكالسيوم والأملاح.
عصورٌ سحيقة
العميد الأسبق لكلية العلوم بجامعة المثنى، الدكتور صفاء جاسم محمد قال، إن "معلومات الجيولوجيين تفيد بأن البحيرة تقع ضمن صخور كلسية تعود إلى العصر الثالث (ما قبل 25 مليون سنة) وهي محاطة بترسبات تعود إلى العصر الرباعي (1,8 مليون سنة)".
وتبلغ مساحة البحيرة السطحية (12.5) كم مربع وطولها (1.5) كم وعرضها نحو (500) كم. وتنخفض بحيرة ساوة عن الأرض المحيطة بها (2 متر، أي أنها لا ترى من مسافة قريبة جداً)، بينما يدعي البعض أنها ترتفع عن مستوى سطح الفرات بحوالي 11 متراً.
سلبٌ ونهب
حتى عهدٍ قريب كانت بحيرة ساوة منتجعاً جميلاً، يجذب آلاف الزوار والسياح العراقيين والعرب والأجانب، لكن بعد الحروب العبثية التي خاضها النظام المباد، تحولت إلى ما يشبه الواحة المهجورة، وبطبيعة الحال تعرضت منشآت البحيرة من مطاعم وشقق وشاليهات للتخريب والنهب وسلب الممتلكات، ثم تكررت مرة أخرى في العام 2003، وسبق أن أعلنت وزارة الثقافة والسياحة والآثار عن نيتها البحث عن مستثمرين لإحياء السياحة في هذا المكان وتجديد بناه التحتية وجعله منفذاً ترويحياً وسياحياً.
مبادرات ولكن
أعلنت جامعة المثنى بالتعاون مع مركز علوم البحار التابع لجامعة البصرة، عن إجراء دراسة مسحية علمية جغرافية وبيئية وهيدرولوجية وسياحية للكشف عن أسرار البحيرة، ووصل فريق بحثي مكون من 25 باحثاً من مختلف الاختصاصات العلمية (الفيزيائية والكيميائية والتلوث والأسماك والجيولوجيا وعلوم الحياة) مع 3 زوارق وأجهزة ومعدات مختلفة، وتم مسح البحيرة وجمعت عينات من الماء لتحليلها كيميائياً وفيزيائياً، كما أخذت عينات من قاع البحيرة لمعرفة تراكيبها وخصائصها الجيولوجية والكيميائية.
وقام الفيزيائيون ولأول مرة، بمسح مقاطع من البحيرة لرسم شكل القاع بواسطة أجهزة متطورة تستخدم لمعرفة العمق بواسطة جهاز الموجات فوق الصوتية. كما أخذت عينات من السلسلة الغذائية للبحيرة، وبدأ فريق العمل أيضاً بجمع عينات من الأحياء المجهرية والبكتريا والفطريات والطحالب والأحياء الفقرية الصغيرة في قاع البحيرة، فضلاً عن جمع نماذج من أسماك البحيرة والطيور الموجودة فيها، إذ سجل 16 نوعاً من الطيور.
رئيس الفريق في وقتها ومدير مركز علوم البحار الدكتور مالك حسن علي، أوضح أن "ما حصل عليه الآن وبشكل مبدئي من معلومات كوّن تصوراً عن البحيرة وهي أنها فريدة في تكوينها المائي القاعي في العراق ولا تشبه البحيرات من ناحية التركيبة الكيميائية، إذ إن مياهها تمتلك مواصفات خاصة في تراكيز العناصر والأيونات الموجودة في التركيبة ولا تشبه مياه البحر ولا المياه العذبة، ولكن يظهر بأن التنوع الاحيائي قليل على الرغم من وجود الهائمات الاحيائية الصغيرة".
وأضاف أن نتائج المسح تدفع فريق العمل البحثي لتقديم أفكار علمية رصينة لإجراء تجارب تساعد على تطوير الحياة البيئية الطبيعية في البحيرة، كما ظهر أن مياه البحيرة لا تشبه مياه البحار لا من حيث نسبة الملوحة ولا التركيبة الكيميائية ولا المياه العذبة بل تشبه البحيرات الكبريتية من ناحية تغايرها عن المياه البحرية في التركيبة الكيميائية، كما وجدت نسبة عالية من مركبات المغنسيوم mg أعلى من تراكيزها في مياه البحر.
لكن رغم كل تلك المبادرات والأبحاث، ظلت بحيرة (ساوة) مهملة حتى جفت مياهها وأصبحت أطلالاً، دون أن تمتد إليها يد الرعاية لغاية اليوم.
دراسات جيولوجيًّة
الباحث الدكتور رشيد باني الظالمي، يقول: "تشير الأبحاث الجيولوجية إلى أن النصف الجنوبي من العراق كان جزءاً من البحر ومهداً للحضارات القديمة مثل حضارة سومر، حيث استوطن البشر مدينة سومر القديمة التي كانت تقع على ساحل الخليج عندما وصلوا إلى هذه المنطقة أو عندما انحسر الانحدار من المناطق الشمالية نحو المناطق الجنوبية".
وأضاف "كانت حضارة مدائن سومر القديمة، مثل أور وأريدو تقع على ضفاف الخليج العربي، بالإضافة إلى أنها كانت تقع على ضفاف مجرى نهر الفرات بعد أن تغير المجرى عن هذه المنطقة الأثرية، وبعد انحسار الخليج اتجهت الحضارة نحو مدينة الوركاء، ومن ثم تغيرت مجاري الأنهار وكان للتغيرات التي طرأت على الخليج العربي علاقة كبيرة جداً بتغير مواقع الحضارة في العراق وتحديداً التغيرات التي طرأت على مجاري الأنهار".
الباحثون من جهتهم، حذروا من حدوث انكسارات متكررة في جرف البحيرة، ما سيؤدي إلى توسع مساحتها، في حين يصل عرضها في أوسع مناطقها إلى 6000 متر و1500 إلى 2000 في المناطق الضيقة، بينما يبلغ طولها حوالي 6000 متر.
سعي حكومي
وبغية التعرف على وجهة النظر الحكومية، فقد تم الاتصال برئيس وأعضاء مجلس محافظة المثنى، حيث أوضحت الحكومة المحلية أنها بصدد المشاركة في لجنة مركزية متخصصة لدراسة أسباب جفاف بحيرة ساوة التي تعد أحد أبرز المعالم البيئية والطبيعية.
وأوضح رئيس مجلس المحافظة أحمد محسن آل دريول، أن "هناك دراسة متواصلة بين الحكومة المحلية وإحدى اللجان المركزية الحكومية التي تعكف على دراسة الأوضاع بشكل مفصل بما يشمل قياس تأثير النشاطات الزراعية والصناعية بالإضافة إلى وضع خطة واضحة لإعادة التوازن البيئي في البحيرة".
ولفت إلى أن "مناسيب المياه في البحيرة انخفضت إلى مستويات حرجة للغاية، ما يهدد استمرارها كمورد بيئي مهم".
أما عضو لجنة الثقافة والسياحة بمجلس محافظة المثنى، إحسان أبو جعيلة فقال "هذا الموضوع طرح في جلسات المجلس، ولدينا مخططات مسبقة بهذا الخصوص، لكن جفاف البحيرة ونضوب مياهها أجل مشروع استثمارها وتطويرها".
وأضاف "هناك أفكار عدة بهذا الشأن، منها تشييد فنادق درجة أولى مع مطاعم وساحات رياضية ومدن ألعاب مختلفة، كما أن محيطها مهيأ ليكون "رالي" لسباق السيارات وجوانب أخرى عديدة".
وأضاف "الرأي المقترح حالياً، هو عرضها كفرصة استثمارية، ونرى أن هذا هو الحل الأمثل، ونحن كأعضاء في الحكومة المحلية ماضون بهذا الاتجاه، وممكن أن تكون هناك دراسة لإعادة المياه مجدداً إلى البحيرة بغية انعاشها بيئياً".