العمارة: سمير السعد
ميسان، هذه المحافظة الغنية بتراثها وتاريخها، لم تكن يوماً مجرد مكان عابر في الخريطة العراقية، بل تمثل قلباً نابضاً بالذكريات والحكايات التي تسكن وجدان أهلها. ومن أبرز تجليات هذا الإرث الثقافي والاجتماعي أسواقها الشعبية، التي كانت وما زالت شاهدة على قصص الناس وحياتهم
اليومية.
وتتداخل هذه الأسواق كأنها سوق واحد، تتنوع هوياتها، فسوق الحدادين والمخضر وسوق العلافين.
"حكاية الحديد والنار
والمواكب الحسينية"
سوق الحدادين في ميسان هو من أقدم الأسواق الشعبية في المحافظة، حيث يعود تاريخه إلى بدايات القرن
العشرين.
نشأ السوق في قلب مدينة العمارة، وكان مركزاً لصناعة الأدوات الحديدية المستخدمة في الزراعة والبناء، بالإضافة إلى تصنيع المكونات الأساسية التي تحتاجها المواكب الحسينية في شهر محرم.
ارتبط سوق الحدادين ارتباطاً وثيقاً بالمواكب الحسينية، حيث كان الحدادون يصنعون "الزناجيل و"الهوادج" والمجسمات الحديدية المستخدمة في الشعائر. وكان السوق يتحول إلى خلية نحل في الأيام التي تسبق عاشوراء، حيث يتعاون الجميع لإعداد كل ما يلزم لإحياء الشعائر الدينية.
ومن أبرز الحدادين القدامى الذين تركوا بصمتهم في السوق، الحاج محمد رضا الكعبي، الذي اشتهر بجودة منتجاته وحرصه على خدمة المواكب الحسينية. يذكر أهل ميسان قصصاً عن كيف كان الحدادون يتطوعون بأعمالهم، معتبرين ما يقدمونه جزءاً من
نذرهم ومحبتهم للإمام الحسين(ع).
"نبض الحياة اليومية "
يعد سوق المخضر القلب الاقتصادي النابض لمدينة العمارة. تأسس في منتصف القرن الماضي، وكان الوجهة الرئيسة لتزويد الأهالي بالخضراوات والفواكه الطازجة. يتميز السوق بحركة دؤوبة تبدأ منذ ساعات الفجر الأولى، حيث يجتمع الفلاحون والتجار والمشترون في مشهد يعكس نبض الحياة اليومية. مر السوق بأحداث بارزة، كان أبرزها خلال فترة الحصار الاقتصادي في التسعينيات، حيث لعب دوراً مهماً في تأمين المواد الغذائية بأسعار تناسب الجميع، ما جعله مركزاً للتضامن الاجتماعي بين أبناء المدينة.
"ذاكرة المثقفين ورواد المحافظة"
سوق العلافين، الذي يختص ببيع الحبوب والأعلاف، له ارتباط خاص بمثقفي ورواد ميسان. كان السوق يقع بالقرب من مقاهي المثقفين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث اعتاد الأدباء والفنانون على الجلوس هناك لتبادل الأحاديث والأفكار.
يُقال إن السوق شهد العديد من الحوارات الأدبية التي ألهمت بعض الكتّاب في ميسان، وكان المكان الذي يلتقي فيه رواد الحركة الثقافية والتجارية، ما جعله مركزاً لقصص اجتماعية وإنسانية جميلة.
حكايات جميلة وشواهد خالدة
تمثل أسواق ميسان الشعبية مرآة حقيقية للتراث الاجتماعي والثقافي للمحافظة. الحكايات المرتبطة بهذه الأسواق ليست مجرد ذكريات، بل شواهد حية على تلاحم المجتمع وتعاونه في مختلف الظروف.
في كل زاوية من هذه الأسواق، هناك حكاية ترويها جدران المحال القديمة أو وجوه الحرفيين الذين ما زالوا يعملون بشغف. أسواق ميسان ليست مجرد أماكن للتجارة، بل مراكز للتاريخ والهوية، ما يجعلها رمزاً من رموز الذاكرة الجمعية لأبناء المحافظة.
استمرارية الحكاية عبر الزمن
على الرغم من التطورات العمرانية والتغيرات الاقتصادية التي شهدتها ميسان، ما زالت هذه الأسواق تحتفظ بمكانتها في قلوب أهل المدينة. ورغم ظهور الأسواق الحديثة والمراكز التجارية، بقيت أسواق الحدادين والمخضر والعلافين ملاذاً لأولئك الذين يبحثون عن أصالة الماضي وجودة المنتجات المحلية.
سوق الحدادين، على سبيل المثال، لا يزال يحتضن عمالاً مهرة ورثوا المهنة أباً عن جد، يواصلون عملهم بطرق تقليدية تحافظ على الطابع التراثي. أما سوق المخضر، فقد أصبح وجهة سياحية محلية تستقطب الزوار الذين يرغبون في استعادة ذكريات طفولتهم أو التعرف على ثقافة المدينة.
وفي سوق العلافين، يستمر الحوار بين الأجيال، حيث يتوافد الشباب المثقفون للتعرف على إرث رواد الماضي، في محاولة لإحياء روح الأدب والفكر التي شكلت جزءاً من هوية ميسان الثقافية.
نداء لحماية التراث
مع تطور الزمن وزحف الحداثة، تتعرض هذه الأسواق لخطر التهميش أو حتى الزوال. لذا تبرز الحاجة إلى توثيق تاريخها وحكاياتها، وتشجيع المشاريع التي تدعم استدامتها. يمكن للجهات الثقافية والمحلية إقامة مهرجانات دورية تحتفي بتراث هذه الأسواق، وتسليط الضوء على القصص الإنسانية المرتبطة بها.
إن أسواق ميسان ليست مجرد أماكن للبيع والشراء، بل هي ذاكرة حية تعكس قيم المجتمع وتراثه. والحفاظ عليها واجب جماعي، فهي ليست ملكاً للماضي فقط، بل هي كنز يمكن للأجيال المقبلة أن تستلهم منه الكثير.
خلاصة القول
أسواق ميسان الشعبية ستبقى شاهدة على حقبة زمنية غنية، مليئة بالتضحيات والإنجازات التي صنعتها أيادي أهلها. هي ليست مجرد أماكن، بل أرواح نابضة بالحياة، تحمل في زواياها أصوات الحدادين، وألوان الخضراوات، وعبق الحبوب، لتحكي حكايات لا تنتهي عن أصالة المدينة وكرم
أهلها.