سعد صاحب
لا يأتي الشعر الجيد الجميل، إلا من هذا التأرجح المخيف، مثل عقارب الساعة في لحظة حاسمة، ومن اللااستقرار على حال، مثل أرجوحة تهتز في الزمهرير، مهجورة من الأطفال والصبايا والعشاق، ومن هدنة كاذبة بين حروب مستعرة، مثل جموح البحار المتلاطمة فوق الصخور، ومن خوف يداهمنا في كل دقيقة، مثل الذي ينتظر موعد الاعدام .
هكذا هو قلق الشاعر عند كتابة القصيدة، وعندما يناجي الفكرة المسببة لكل هذا الإرهاص العنيف، وكأن شيئاً يلح عليه من الداخل، لا يريد أن يغادره ولا يريد معه البقاء، شيء بقدر تعاسته المفرطة، هو قريب إلى النفس الهائمة بحبه إلى الأبد، وكأن الشقاء الموجع المرير، يحتوي على قدر كبير من السعادة، وكأن الرواح والمجيء على نقالة الموت المخضبة بالدماء، والركض المدمر للروح في المتاهات، حالة من الطمأنينة والأمان والسلام والسرور. (اتلولحي بروحي گصيبه اتلولحي / اتلولحي ابگلبي قصيده
اتلولحي ).
هل العيب فينا أم في الزمان؟ أم هو التوقيت الخاطئ للثورات المجهضة في مهدها؟ أم الخذلان من قبل المكلفين بالواجب؟ أم عدم الدراية بتوزيع المهام، بحسب الكفاءة والمؤهلات والاقتدار والشجاعة؟ أم شعور الرؤوس الكبيرة بالعجز في التغيير، وصعوبة تحقيق أبسط المكاسب لطوابير الفقراء المنتظرة، لمن ينتشلها من حضيض واقعها الأليم؟ أم هو ظلم الواقع الاجتماعي للمبدع، باعتباره شخصاً خطيراً يقلق النظام السياسي، ويحرك منظومة الأفكار الثابتة، ويهدد معايير السلوك والأخلاق والأعراف والتقاليد.
في البيت القادم الكثير من الإذلال واللوم والحيف، وتأنيب الضمير والانتكاس وجلد الذات، والتبرير الخالي من الاقناع، ربما يكون العتاب المر سبباً للانطلاق في ثورة جديدة، تغير الواقع وتقلب الموازين، وكل بحسب طاقته يقدم ما بوسعه للأفواه المفتوحة الجائعة. (احنه خلانه وكتنه / تراب بحلوگ الرحي).
ربما يطيب الجرح ويتشافى من الداء، لكن آثاره باقية، لأن الجرح في داخل النفس المنكسرة، وليس في مكان واضح من الجسد الطعين، والجرح عند عريان السيد خلف يأتي معبراً، عن هموم اليسار العراقي بشكل خاص، وما عانى من الظلم والاحباط والإهمال والنسيان والتشويه والتضييق، وهو لسان حال كل الجراح الثائرة، فأصحابها أباة يفضلون الموت على السلامة المذلة، يغامرون بحياتهم ضد الباطل، ولا يسعون وراء المغانم ولا يبالون بالمناصب، وهمهم الوحيد إعادة الروح إلى القيم الإنسانية المندثرة، جراء سياسة التسليع والأنانية والبلادة والتنميط
والاستهلاك. (شما يطيب الجرح بينه / ايطيب بس ما ينمحي ).
إلى أين تريد بنا أيها الشوق الرهيب؟ أيها الشوق الذي يمتطي مهرة جامحة، ويركض بين المنحدرات بفارس جريح، في كل خطوة تتساقط الأحلام والأفكار والسنوات، كما تتساقط في هبوب الريح أوراق الخريف اليابسة. (الياكتر يا شوگ روحي / اتريد بيه
الياكتر ).
لعبت بنا الأيام والأقدار والدنيا والمنافي والسياسة والعيون الكحيلة، ولم نجد غرفة للايجار تضمنا حينما يحل المغيب، ولم نجد مقهى مفتوح الأبواب، يرحب بالغرباء القادمين من المنافي البعيدة، ومن آخر الثلوج والبروق والبراكين والصواعق، ولم نجد مكاناً نأوي إليه في ليالي الجحيم، ولم نجد صدراً حنوناً يرضعنا الحب والدفء والأمان والحليب، ولم نجد وطناً، كما كنا به نحلم، حين كنا نستعيد الذكريات، وحين كان يستبد بنا الحنين. (لعبت بحالي الليالي / وما لگه ولايه العمر).
تتسلى الناس بالأقوال والأكاذيب والنميمة والنفاق، ونحن نتسلى بالأغاني القديمة، وكتابة الأشعار فوق أوراق السجائر، سلاحنا الصبر في وجه النوائب، وإعادة قص الأفلام من جديد، وهذا أفضل الخيارات عندنا في وحشة الليل البهيم، حينما يحاصرنا الجنود بالسياط والهراوات والعصي والأسلحة، في الممرات الضيقة مثل الحياة، وهل تمتلك الأرض سوى شوغاتها الملتهبة، وانتظارها المضني إلى المطر؟ وهل يجيء محملاً بالبشائر والأحلام والوعود كما قال السياب، أم أنه مطر عقيم؟. (سولت الناس الملامه / واحنه سولتنه الصبر / وشيمة الگاع بصبرها / اتشوغ لهفه وتنتظر).