ماكس كيم
ترجمة: بهاء سلمان
منذ نحو جيل مضى تقريباً، امتلكت كوريا الجنوبيَّة نقطة مميّزة تحسد عليها وحاولت معالجتها وهي: أرض العمال المستهلكين. فبتحمل الكوريين الجنوبيين أعباء وجبات الطعام الإلزاميَّة للشركات وتوقعات غير معلنة للبقاء لوقتٍ متأخرٍ في أماكن العمل، كان عليهم العمل بمعدل 48 ساعة أسبوعياً لسنة 2006، وفقاً لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي شملت معظم الدول المتقدمة. هذا الرقم، إذا كان تحليل العوامل يشير لوجود ثلاثة أسابيع عطلة كأمر قياسي، كان أكثر بنسبة 31 بالمئة عن الولايات المتحدة، وسبعين بالمئة عن هولندا، التي حلت بالمرتبة الأدنى.
ورغم تأسيس نظام 52 ساعة عمل أسبوعياً لسنة 2018، علاوة على إصلاحات العمل الأخرى التي أدّت إلى تخفيضات كبرى، تبقى آثار ثقافة العمل الهائلة الضغط واضحة للعيان. وبتسجيلهم لمعدل عمل سنوي منخفض عشر ساعات أسبوعياً عن سابقته، يقف الكوريون الجنوبيون حالياً سادساً ضمن قائمة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ عددها 38 دولة؛ ولا تشتغل عمالة الدول الأخرى أكثر منهم إلا في المكسيك وكوستاريكا وتشيلي واليونان.
ويقول الكثيرون داخل البلاد حالياً بأنَّ الوقت حان لخطوة أكثر جذريَّة، وهي التحوّل نحو أسبوع عمل بأربعة أيام فقط. ولاقت هذه الفكرة تجاوباً خاصاً داخل البلاد، إذ ينظر إلى التوازن الهزيل بين الحياة والعمل بشكلٍ كبيرٍ كواحدٍ من أهم الأسباب الرئيسة لمعدلات الإنجاب المتدنية جداً، والتي يصفها رجال السياسة بكونها تمثل حالة طوارئ وطنيَّة. وبلغ معدل الإنجاب للعام الماضي في كوريا الجنوبيَّة أقل من واحد بالمئة ولادة لكل امرأة، أدنى بكثيرٍ من نسبة اثنين بالمئة لغرض معالجة الأزمة وإدامة أعداد سكان مستقرة.
يقول عضو البرلمان "بارك هونغ باي": "يمثل تخفيض ساعات العمل المطلب الحتمي لجميع الأزمان، فهو مفتاح الحل لكثير من التحديات التي تواجهها البلاد اليوم"، وكما حصل في مناطق كثيرة من العالم، عمل وباء كورونا على تعجيل التحوّل الاساسي في الطريقة التي ينظر بها الكورويون الجنوبيون الى وظائفهم، وغذّت تقارير عن وفاة سواق توصيل الطلبات وعمال آخرين بمواقع متقدمة بسبب الإرهاق إحساساً أوسع بخيبة الأمل من الوضع القائم، بالوقت نفسه الذي وجد فيه المشتغلون من المنزل أنفسهم يتساءلون إن كان من الضروري الذهاب إلى مواقع العمل كل يوم.
اتفاق سياسي
"تعد مسألة العمل بأوقات أقل إحدى قضايا سياسات العمل التي تشهد تأييداً واسعاً من قبل الكتلتين السياسيتين الرئيستين في البلاد، وخصوصاً بين جيل الألفيَّة وحزب Gen Zs،" كما يقول "كيم جونغ جين"، الناشط العمالي لدى معهد كوريا للعمل. ويحبذ أكثر من ستين بالمئة من القوى العاملة الكورية الجنوبية أسبوع عمل بأربعة أيام، وفقاً لاستبيان أجرته إحدى شركات المسح مؤخراً. ومن بين العاملين بأعمار العشرينات والثلاثينيات، تصعد النسبة إلى سبعين بالمئة. ووجد مسح آخر، نفّذته شركة وونتد للموارد البشريّة العام الماضي، أن أكثر من نصف 1700 فرد تم أخذ آرائهم يفضّلون أسبوعاً بأربعة أيام عمل، حتى لو أدى هذا الأمر إلى تخفيض الأجور.
وفي أماكن أخرى من العالم، يجري مساندة أسبوع العمل المخفّض الزمن بشكل متزايد من قبل دليل لعالم واقعي من الذي يدعم الانتاجية، والتغلّب على المعتقدات الموجودة. ومع تقارير لمستويات إرهاق عالية بين صفوف العمالة الأميركية، اقترح السيناتور "بيرني ساندرز" قانوناً لفرض 32 ساعة/ أسبوع عمل من دون تخفيض الأجور. أما "ستيف كوهين"، الملياردير الأميركي ورجل الأعمال المعروف، فيتوقع أن مكاسب الكفاءة المتحققة بفضل الذكاء الاصطناعي ستعمل قريباً على جعل أسبوع عمل بأربعة أيام هو المعيار المعتاد.
في بريطانيا، وبعد تجربة طالت ستة أشهر لأسبوع عمل أقصر زمناً أسهمت بها 61 شركة ومنظمة، وهي الأكبر من نوعها عالمياً للآن، عملت على إبقاء التغيير لمعظم الشركات، مع تقارير لإنجاز وظيفي أفضل وانتاجية أعلى زمنياً.
وبدأ أصحاب الشركات والسياسيون في كوريا الجنوبيّة بالانتباه لهذا الأمر أيضا؛ ففي العام الماضي، اختبرت إحدى أكبر مستشفيات البلاد أسبوع عمل بأربعة أيام لبعض من كادرها التمريضي. وبرغم فرض تقليص عشرة بالمئة على الأجور نوقشت مع نقابة عمال المستشفيات، أشارت تقارير البرنامج إلى انخفاض واضح في حجم العمالة المشتغلة وزيادة قناعة المرضى بالخدمات المقدمة إليهم.
وبعد تجارب أصغر نطاقاً أجرتها عدة حكومات إقليميّة لتقليص ساعات العمل لموظفي الخدمة المدنيّة، أعلنت حكومة غيونجي، المقاطعة الأكثر اكتظاظاً بالسكان، مؤخراً أنّها ستنفق سبعة ملايين دولار أميركي لإطلاق برنامج تجريبي خاص بها لتقليص أسبوع العمل إلى أربعة أيام ونصف اليوم في العام المقبل، إذ تخطط نحو خمسين جهة عمل خاصة وعامة للمشاركة في البرنامج.
وقد صاغ اتحاد الصناعة المالية في كوريا، الذي يمثل موظفي المصارف داخل البلاد، مطلبه بتقليص أسبوع العمل إلى أربعة أيام ونصف الأسبوع باعتباره مسألة تتعلّق بالبقاء الوطني، قائلاً إنّ "أول ما يتعيّن علينا القيام به لحل أزمة الإنجاب هو تقليص الوقت الذي يقضيه العاملون في العمل".
قلة الإمكانات
يقول الموظف "كيم جانغ أونغ"، يبلغ من العمر 32 عاماً ويعمل لدى إحدى شركات التجزئة الكبرى في سيئول، إنَّ أسبوع العمل المكوّن من أربعة أيام يبدو إجراءً أكثر فعاليّة لدعم قضية الإنجاب. وقد بدأ هو وزوجته مؤخراً بالتخطيط لتكوين أسرة، لكنّه يتساءل كيف سيتدبّر أمره عندما يقضي أكثر من 12 ساعة من اليوم بين التنقّل والعمل. "أودُّ أن يكون لديَّ الوقت الكافي لرعاية طفلي بالفعل"، يقول كيم.
ومثل زوجته التي تعمل أيضاً، يحق لكيم قانوناً الحصول على عام من إجازة الوالدين، وتتبع شركته سياسة تسمح للآباء بالحضور إلى العمل في وقت متأخر قليلاً إذا احتاجوا إلى ترك أطفالهم في الحضانة.
لكن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في كوريا الجنوبية، والتي توظف غالبية القوى العاملة في البلاد، تقول إنها ليست في وضع يسمح لها بتبني أسبوع عمل من أربعة أيام. يقول "لي ميونغ رو"، رئيس قسم سياسة العمل في الاتحاد الكوري للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، إن هذه الشركات عالقة في حلقة مفرغة: ساعات العمل الطويلة تدفع العمال الشباب بعيداً، مما يؤدي إلى تعميق نقص العمالة الذي بدوره يعمل على انخفاض الإنتاجية وزيادة أعباء العمل الفرديّة.
وبرغم تبوأ كوريا الجنوبية للمرتبة السادسة في ساعات العمل بين أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإنّ إنتاجية العمالة في البلاد، كما تم قياسها من خلال الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل، احتلت المرتبة 33 فقط من بين 38 لسنة 2022.
صحيفة لوس انجليس تايمز الاميركية