العراق وأوكرانيا: معاً في السعي نحو السلام والتنمية

بانوراما 2024/12/17
...

 إيفان دوفغانيتش

في 16 ديسمبر 1992، أي قبل 32 عاماً، أُقيمت العلاقات الدبلوماسية بين أوكرانيا والعراق. ومع ذلك، فإن العلاقات الأوكرانية-العراقية تمتد إلى تاريخ أعمق بكثير، قائم على تقاليد راسخة نعتمد عليها في تعزيز التعاون الثنائي. لقد حصل العديد من العراقيين على تعليمهم في الجامعات الأوكرانية، وأسست العديد من العائلات الأوكرانية-العراقية روابط متينة بين شعبينا.

في 16 ديسمبر 1992، أي قبل 32 عاماً، أُقيمت العلاقات الدبلوماسية بين أوكرانيا والعراق. ومع ذلك، فإن العلاقات الأوكرانية-العراقية تمتد إلى تاريخ أعمق بكثير، قائم على تقاليد راسخة نعتمد عليها في تعزيز التعاون الثنائي. لقد حصل العديد من العراقيين على تعليمهم في الجامعات الأوكرانية، وأسست العديد من العائلات الأوكرانية-العراقية روابط متينة بين شعبينا. تمتلك بلداننا إمكانات هائلة للتعاون المتبادل، لكنها تأثرت باستمرار بعدم الاستقرار السياسي والحروب. ومع ذلك، بصفتي سفير أوكرانيا، أنظر بتفاؤل إلى آفاق التعاون بين أوكرانيا والعراق
عندما زرت العراق لأول مرة قبل 18 عاماً بصفتي دبلوماسياً أوكرانياً شاباً، كانت البلاد في خضم أحداث صعبة. كان عدم اليقين والصعوبات واقعاً يومياً، وكان ذلك فترة عصيبة في حياة العراقيين ومع ذلك، حتى في ذلك الوقت، كنت مقتنعاً.
 إذا حصل العراق على 20 عاماً فقط من السلام والاستقرار، فلن يتعرف العالم على هذه البلاد، العراق يمتلك كل -المقومات ليصبح من أكثر الدول ازدهاراً.
للأسف، كان الاستقرار آنذاك بعيد المنال، واضطر العراق إلى مواجهة اختبارات صعبة، بما في ذلك المعركة الدامية ضد تنظيم "داعش". كانت هذه المعركة تحدياً للأمة بأسرها، ولكن الشعب العراقي توحد وحقق انتصاراً حاسماً، وضع أسس إعادة إعمار البلاد. قبل شهر، وبعد غياب طويل، عدت إلى بغداد كسفير أوكراني. وقد أذهلتني التغييرات الإيجابية التي شهدتها العاصمة العراقية، حيث بالكاد تعرفت على بعض الأماكن. بالطبع، ظهرت العديد من المباني الحديثة التي تعكس التحسن التدريجي في الوضع الاقتصادي للبلاد. لكن ما أثلج صدري أكثر هو رؤية العديد من وجوه الأطفال المبتسمة في شوارع المدينة وهو مشهد لم نكن نراه في بغداد عام 2006
قد لا يلاحظ العراقيون في حياتهم اليومية دائماً التقدم الذي يحدث في بلدهم. وغالباً ما يكون التركيز على المشكلات والعيوب أمراً طبيعياً في أي مجتمع. ومع ذلك، بصفتي أجنبياً قادراً على مقارنة وتقييم الوضع من الخارج، يمكنني أن أقول بثقة إن العراق يسير في الاتجاه الصحيح
سيكون من الخطأ التغاضي عن التحديات العديدة التي يواجهها العراق، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. ومع ذلك في رأيي، تظهر الحكومة العراقية براعة دبلوماسية استثنائية، حيث تتبع القيادة السياسية سياسة حكيمة تجعل العراق عاملاً للاستقرار في المنطقة وتُسهم في تحقيق الازدهار التدريجي.
خلال زيارتي الأخيرة إلى البصرة مع مجموعة من السفراء، لاحظت أن التحسينات ليست مقتصرة على العاصمة فقط، بل تمتد إلى الأقاليم أيضاً. تنظيم هذه الزيارة من قبل الحكومة العراقية ووزارة الخارجية كان مثالاً رائعاً على الضيافة والمهنية. وأعبر عن امتناني العميق لرئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني، ونائبه، ووزير الخارجية السيد فؤاد حسين، ومحافظ البصرة السيد أسعد العيداني، على إتاحة الفرصة لنا لمشاهدة إنجازات هذا الإقليم الجنوبي. كما أشكر سكان هذه المدينة الرائعة على كرمهم وحسن ضيافتهم. تحتل البصرة دوراً فريداً كبوابة العراق إلى العالم. تاريخ هذا الإقليم كمركز للعلم والأدب والتجارة أثرى الحضارة الإنسانية جمعاء. لقد أذهلتني معروضات متحف البصرة التي تشمل آثاراً من عصور سومر وبابل وآشور. وبصفتي عالماً آثارياً سابقاً، لاحظت بشغف أوجه التشابه بين الفخار في بلاد الرافدين القديم وتلك المكتشفات التي عثر عليها علماء الآثار الأوكرانيون في مواقع حضارة تريبيليان. ربما كان هناك اتصال ما بين الشعوب التي عاشت على ضفاف دجلة والفرات وأولئك الذين عاشوا على ضفاف نهر الدنيبر؟ ومن يدري، ربما تمتد علاقات العراق وأوكرانيا إلى آلاف السنين؟
البصرة هي أيضاً موطن الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، الذي أصبحت "أنشودة المطر" رمزاً للنهضة والأمل، وتواصل إلهام الملايين حول العالم
في الوقت نفسه، البصرة مدينة تتجه بخطى ثابتة نحو المستقبل. ومن أبرز إنجازاتها الحديثة هو ميناء الفاو الكبير، الذي يُبنى على ضفاف الخليج العربي، والذي سيصبح بالتأكيد جزءاً مهماً من استراتيجية العراق الطموحة لتعزيز دوره كمركز لوجستي رئيسي بين أوروبا وآسيا.
يسرني، بصفتي سفير أوكرانيا، أن أشير إلى مساهمة الشركات الأوكرانية في تحقيق هذا المشروع الطموح. فعلى سبيل المثال، شركة "Altcom" الأوكرانية للبناء تعمل على تنفيذ العديد من عقود تطوير الطرق في العراق، بما في ذلك إعادة تأهيل الطريق السريع رقم 1، الذي سيربط ميناء الفاو بالأسواق الخارجية
قامت نفس الشركة الأوكرانية بإعادة تأهيل جسر قرطبة في منطقة باب الشرقي، في وسط بغداد، مما أسهم في تقليل الازدحام المروري في العاصمة. وخلال افتتاح جسر قرطبة، أعرب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عن شكره للشركة الأوكرانية "Altcom" التي تولت تنفيذ هذا المشروع.
تعيش أوكرانيا اليوم فترة صعبة للغاية في تاريخها. فقد أصبحت بلادنا ضحية لعدوان غير مبرر جلب الدمار والألم والموت. شنَّت روسيا حرباً عدوانية دون أي مبررات جيوسياسية. هذه الحرب ليست من أجل الأراضي أو الموارد وليست بسبب مواجهة بين الشرق والغرب كما يحب بعض المحللين السياسيين القول. لقد دفعت الكراهية بوتين إلى هذه الحرب المجنونة. إنه يكره الأوكرانيين ويسعى إلى تدميرنا فقط لأننا نريد أن نكون أصحاب السيادة على أرضنا. وليس لدينا خيار سوى القتال. يقاتل الأوكرانيون بشجاعة ليس فقط من أجل البقاء، ولكن أيضاً لمعاقبة الشر ومنع أي طاغية مجنون من تقرير مصير الشعوب الأخرى.
يعرف الأوكرانيون من تجربتهم الخاصة معنى المعاناة. ومع ذلك، لم تجعلنا الحرب قساة. نحن مستمرون في تقديم المساعدة للدول الأخرى التي تعاني من أزمات غذائية. بفضل البرنامج الإنساني "الحبوب من أوكرانيا"، نرسل كل عام مئات الآلاف من الأطنان من المنتجات الزراعية (مثل القمح والدقيق والبازلاء والذرة وزيت عباد الشمس) إلى الدول التي تعاني من أشد الأزمات الغذائية، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، جيبوتي، إثيوبيا، كينيا، مالاوي، موريتانيا  موزمبيق، نيجيريا، الصومال، السودان، واليمن.
كما تشمل هذه المساعدات فلسطين. ورغم العدوان الروسي والتهديدات المستمرة بمزيد من الهجمات على شعبنا، تواصل أوكرانيا التزامها بتقديم الموارد الضرورية لتخفيف معاناة الفلسطينيين. وفي عام 2024، أرسلت أوكرانيا إلى فلسطين
   طناً من الدقيق و751 طناً من زيت عباد الشمس 8730
وفي الأيام الأخيرة، أكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي استعداد أوكرانيا لتقديم المساعدات الغذائية للشعب السوري
تسببت العدوان الروسي في إلحاق ضرر كبير بالعلاقات الاقتصادية بين أوكرانيا والعراق. ففي عام 2021، بلغت التجارة الثنائية بين بلدينا ما يقرب من 700 مليون دولار، لكنها انخفضت إلى نحو الربع بحلول نهاية عام 2023 لتصل إلى 190 مليون دولار فقط. ومع ذلك، ورغم الحرب، نشهد تعافياً تدريجياً، ونتوقع أن يصل حجم التجارة إلى ما لا يقل عن 250 مليون دولار بحلول نهاية عام 2024
حتى الآن، تستمر الأنشطة الفعّالة للشركات الأوكرانية في العراق. لقد ذكرتُ سابقاً مشاركة الخبراء الأوكرانيين في مشاريع بناء الطرق، ولكن هذا ليس المجال الوحيد الذي يعمل فيه الأوكرانيون. تقوم الشركة الأوكرانية “Ukrzemresurs”
. بتنفيذ مشروع طموح في حقل عكاس للغاز، والذي يهدف إلى تقليل نقص الكهرباء بشكل كبير في العراق
ومع ذلك، ليس كل شيء يتم بسلاسة، فبين الحين والآخر تظهر بعض المشكلات. الشركات الأوكرانية المتخصصة في صناعة الأدوية، والتي كانت لعقود تزود العراق بالأدوية، تواجه الآن عقبات بيروقراطية غير متوقعة. نأمل بصدق أن نتمكن، بمساعدة الحكومة العراقية، من حل جميع الإجراءات الشكلية، بحيث تعود الأدوية الأوكرانية عالية الجودة للمساهمة في استعادة صحة المرضى في المستشفيات العراقية
نرى أيضاً إمكانيات كبيرة للتعاون في قطاعات أخرى، لا سيما في مجال الزراعة. على سبيل المثال، تتمتع الشركات الأوكرانية بخبرة واسعة في تصميم وتنفيذ أنظمة المطر الصناعي، التي يمكن أن تكون مفيدة لريّ مساحات شاسعة من الأراضي وزيادة الإنتاجية الزراعية
العراق وأوكرانيا شريكان تقليديان جيّدان. شعوبنا تتطلع بصدق إلى السلام والاستقرار والازدهار. لدينا تقاليد عميقة وطويلة الأمد من التعاون المتبادل الذي لم يستنفد بعد إمكاناته. هناك إمكانيات هائلة غير مستغلة بين بلدينا، ومعاً يمكننا بناء مستقبل قائم على الثقة والتعاون والاحترام المتبادل. مستقبل تملأ فيه وجوه الأطفال المبتسمة شوارع مدننا وقراناومستقبل، كما تنبأ بحكمة بدر شاكر السياب، "سيُزهر العراق من المطر
إيفان دوفغانيتش
السفير فوق العادة والمفوض لأوكرانيا في جمهورية العراق
على السلك الدبلوماسي منذ عام 1997
في الفترة 2006-2008، عمل في بغداد، وكان القائم بالأعمال المؤقت لأوكرانيا في العراق
عمل سفيراً لأوكرانيا في جمهورية فيتنام الاشتراكية وفي مملكة كمبوديا
في 24 نوفمبر 2024، قدَّم أوراق اعتماده كسفير فوق العادة والمفوض لأوكرانيا إلى رئيس جمهورية العراق عبد اللطيف رشيد