حلم الإسكان الأميركي يتحقق في السويد

بانوراما 2024/12/17
...

 فرانسيسكا ماري
 ترجمة: مي اسماعيل

ذات مرة، تطلعت الولايات المتحدة الاميركية إلى إسلوب البناء القياسي "modular construction" (وحدات بنائية جاهزة في المعمل وفق أبعاد قياسية متكررة، يجري تجميعها موقعيا. المترجمة) بوصفه طريقة فعالة لبناء الكثير من المساكن على نطاق واسع. لكن السويد هي التي التقطت الفكرة ووضعتها قيد التنفيذ.

لأنه معماري؛ يرى "إيفان روبنيك" أن الحل الواضح لمشكلة اميركا بالحصول على اسكان معقول الكلفة هو بناء المزيد من المساكن. لكن طريقة بناء المساكن في الولايات المتحدة تجعل من سرعة الانجاز امرا شبه مستحيل.. فقبل بضع سنوات قدمت جدة روبنيك إجابة مثيرة لحفيدها حول هذا الأمر: "أنظر إلى مشاريع البناء القياسي التي جرى تشييدها في أوروبا خلال عقود الخمسينيات والستينيات". فعلا؛ قد تكون مُجمعات المباني مسبقة الصنع (خاصة لدى الاتحاد السوفييتي) قبيحة المنظر وشديدة التشابه؛ لكن تشييدها كان عمليةً وفرت ملايين الوحدات السكنية بسرعة كبيرة.
قام روبنيك ببعض الابحاث في ارشيف كلية الدراسات العليا للتصميم بجامعة هارفارد، وعثر على موضوع عن مبادرة الاسكان المُصنّع المسماة: "عملية التقدُّم- Operation Breakthrough " التي وفرت نحو ثلاثة آلاف وحدة سكينة بين أعوام 1971-1973 في الولايات المتحدة.. اتجه روبنيك إلى "وزارة الإسكان والتنمية الحضرية" التي أطلقت البرنامج. وكان قد جرى إعلان المبادرة عام 1969؛ حينها قدّم وزير الإسكان "جورج رومني" الأمر بأنه من أساسيات الاقتصاد: "إذا قمت بسرعة بزيادة المعروض من المساكن، فإنك تدفع أسعارها إلى الانخفاض". وشدد على أن البناء المُصنّع كان هو الحل الوحيد.

تطوير البناء الصناعي
عندما أصبحت الصناعات الأخرى كلها تقريبا أكثر انتاجا منذ العام 1968؛ انخفضت انتاجية بناء المنازل؛ أي- كمية العمل الأساسية التي يقوم بها عامل واحد/ ساعة واحدة بمقدار النصف. فلا يكاد البلد يبني ما يكفي من الوحدات السكنية لإدامة الوضع آنذاك مع وجود نقص بنحو أربع ملايين وحدة سكنية. وبتقدم الزمن، ومع النمو السكاني وتغير المناخ والتدهور الطبيعي لمخزون الإسكان؛ سترتفع الحاجة إلى المزيد. كان نقص الوحدات السكنية مشكلة حقيقية خلال عام 1969، فكانت "عملية التقدم" تقترح استخدام القوة الشرائية الهائلة للحكومة الفيدرالية لضمان سوق كبيرة، مع توثيق وتغيير الحواجز التنظيمية التي تعوق التصنيع.
نفذت "عملية التقدُّم" بضعة مشاريع ومساكن عامة؛ لكن الكونغرس قرر عام 1976 بأنها كانت عالية الكلفة جدا، فماتت المبادرة بعد أقل من عقد. إلا أن التطبيق بحد ذاته حقق نتائج طيبة؛ إذ قاد لوضع قانون وطني ينظم ويوسع قطاع المقطورات السكنية (الذي لم يكن له قانون سابقا) والذي يمثل الآن نحو عشرة بالمئة من المنازل العائلية الفردية لأميركا؛ فالعقبات أمام البناء السريع للمساكن لم تكن تكنولوجية؛ وإنما مؤسساتية..
مع أن "عملية التقدم" لم تؤثر إلا قليلا في الولايات المتحدة؛ لكنها أثّرت جذريا على بلدان أخرى.. أرسلت اليابان وفدا جاب مواقع مشاريع المبادرة لدراسة تقاريرها.. والآن أصبحت جميع عمليات البناء تقريبا في اليابان صناعية، و15 بالمئة من المنازل مصنوعة مسبقا من الفولاذ. وفي السويد تبلغ النسبة نحو 45 بالمئة، ويقوم العاملون هناك بتشييد هياكل عالية من الخشب؛ وهو مادة الإسكان المفضلة في الولايات المتحدة، والأكثر ملاءمة للمناخ هناك.
لم يستطع روبنيك تجاهل حقيقة أن الإسكان الصناعي في الولايات المتحدة (حيث تم اختبار "عملية التقدم")، لا يشكل سوى ثلاثة بالمئة من حصة السوق. لذا سعى مع شركائه وبالتعاون مع وزارة الاسكان لإعادة تقييم التجربة بهدف الوصول لكيفية إنتاج مساكن صناعية فعالة. كما سافر إلى السويد لتقييم مدى نجاح تطبيق ذلك المبدأ هناك.
كانت فرضية "عملية التقدم" أساسا هي: ماذا لو تمكنّا من بناء المنازل صناعيا بنفس الطريقة التي يجري بها إنتاج السيارات؟ أخذت شركة " ليندباك- Lindbäcks" السويدية (شركة إنشاءات تملكها عائلة، قرب الدائرة القطبية الشمالية)،

محاكاة سيارة "فولفو"
هذا السؤال حرفيا، وقبل افتتاح معملها لانتاج الوحدات السكنية عام 2017 زارت ادارتها معامل شركتي تويوتا وفولفو لصناعة السيارات، ومصانع اللب والورق القريبة؛ لتستعير أفضل أفكارها.. يتمحور كل شيء في المصنع حول خط رئيسي واحد: حزام ناقل بطيء الحركة يجري عليه تجميع القطع البنائية المكتملة لتصير وحدات قياسية كاملة التشكيل.. هذا الخط الرئيسي هو العمود الفقري للعمل؛ أما التجميعات الفرعية التي تستغرق وقتا أطول، أي- خطوط النتاج الأقصر للآلات التي تبني الأرضيات والجدران والأسقف وما يسمى بالخدمات اللوجستية (مثل أسطح العمل والخزائن) فتقوم بتغذية العمود الفقري مثل الأضلاع. تكتمل وحدة صندوقية واحدة كل ثلاثين دقيقة تقريبا؛ ويمكن ربط الوحدات مع بعضها لتشكيل شقق سكنية ذات أحجام ومخططات أرضية متنوعة.
لكن الفرق الملحوظ بين الولايات المتحدة والسويد هو فرقٌ تنظيمي؛ إذ تحاول انظمة البناء الأميركية ان تجعل المباني آمنة من خلال وصف المواد التي يجب استخدامها وكيفية استخدامها بالضبط (قانون وصفي). بينما في السويد تقوم الحكومة بذلك عن طريق وضع الأهداف والسماح لشركات البناء بتقديم الطرق اللازمة للانجاز (قانون للأداء/للإنجاز).
بناء المنازل عالية الجودة لن يكون رخيصا أبدا؛ سواء في الموقع أم خارجه؛ إذ لا يجب التقتير في المواد أو العمالة. وقد لا يكون المنظور الاقتصادي الذي توفره المنازل المبنية في المصانع واضحا منذ البداية. كما  يستفيد البناؤون التقليديون من التغييرات التي تحدث في وقت متأخر من العملية. أما المنازل المبنية في المصنع فيمكن تقليل تعديلاتها إلى الحد الأدنى؛ لأن العملاء يختارون عموما ضمن إطار موحد ولا يُسمح بالتغييرات بعد نقطة معينة. الفائدة هنا تكون بضمان السيطرة النوعية والسرعة مصنعيا؛ أما الربح الحقيقي، الربح طويل الأجل؛ فيأتي من تبسيط نظام البناء لتحقيق نتائج يمكن التنبؤ بها، والتسليم السريع. أو كما  قال "ستيفان ليندباك"، الرئيس التنفيذي للشركة السويدية: "الأمر لا يتعلق بالمنتج الأرخص؛ بل نريد الحل الأرخص".. وهذا المنهج يشجع على إيجاد حلول مبتكرة ويؤدي إلى تقليل خسائر الانتاج.

كيمياء التصميم والخشب
قبل أن تعتمد السويد أنظمة البناء المشترطة لجودة الاداء عام 1995؛ كانت المباني الخشبية محدودة بارتفاع طابقين. وبين عشية وضحاها بات من الممكن أن يصل ارتفاع المباني الخشبية إلى الحد الذي يثبت المهندسون أنه آمن. أعمال التشييد مسؤولة عن نحو أربعين بالمئة من انبعاثات الكربون عالميا، لكن هذه النسبة في السويد تبلغ نحو عشرين بالمئة فقط؛ لأن عملية التشييد تجري باستخدام الخشب الوفير.. فهنا تلتقط الأشجار التي يجري قطعها نسبة الكربون وكذلك الأشجار المزروعة لتحل محلها. وإذ يُكلّف البناء بالخشب أكثر من بعض المواد الاخرى؛ لكنه يتطلب كميات أقل من الطاقة ويسمح بسرعة التشييد لكونها العامل الذي يعطي للصناعة القدرة على تحقيق خفض التكاليف. وحتى عندما تكون نسبة التوفير المالي لتكاليف العمالة والمواد متواضعة؛ فإن انجاز المزيد من الوحدات ضمن فترة زمنية قصيرة نسبيا له تأثير خفض سعر السوق لجميع الوحدات.

صحيفة نيويورك تايمز الأميركية