محنةُ القراءة.. الأمانةُ العلميّةُ وسيفُ الوقت

ثقافة 2024/12/17
...

 محمد صابر عبيد

يعيش القارئ المعاصر بأنواعه المتعددّة -ابتداءً من القارئ السياحيّ وصولاً إلى القارئ الناقد- أصعب أيّام القراءة وأكثرها شقاءً وإشكالاً وحَرَجاً، لفرط ما تنتجه دور النشر من مهرجان كتب في الشعر والقصة والرواية والنقد والفكر والثقافة والفلسفة وغير ذلك، بحيث يتعذّر على أمهر وأشجع وأقوى وأخطر قارئ في العالم أن يتفاعل مع جزء قليل ممّا تلفظه المطابع
يوميّا.
ولا سيّما أنّ كلّ كاتب ينتج كتاباً إبداعياً على وجه الخصوص ينتظر بشغف ما يقوله النقّاد عنه، وعلى الرغم من أنّ هذا من حقّ الكاتب غير أنّه غير مُلزِم للناقد الذي يتطلّع نحو خياراته القرائيّة والنقديّة والبحثيّة بمنهجيّة خاصّة، تقوده إلى قراءة كتاب محدّد وإهمال آخر بحسب الرؤية التي يشتغل عليها في مشروعه النقديّ ويخصّص الجزء الأعظم من
وقته له.
إنّ هذا الكمّ الهائل من المنشورات الأدبيّة في حقول الأدب كلّها بلا معايير ولا تقييدات ولا مساءلات فنيّة وجماليّة؛ مع قلّة النقّاد الأصيلين ورداءة كثير ممّا ينشر، يجعل ما يمكن تسميته "العزوف النقديّ" عن التواصل مع المشهد حاضراً وأكيداً، وهذا لا يُنقِص من فعاليّة النقد ولا يضعه في أزمة كما يتخيّل البعض، فالناقد أسّسَ شخصيّته النقديّة على وفق مبادئ ونظريّات وقواعد تتوافق مع رؤيته واستعداده الذاتيّ ومزاجه الشخصيّ، وعليه فهو يفتح فضاء خياراته على ظواهرَ بعينها وكتبٍ بعينها ونصوصٍ بعينها يعتقد أنّها تستجيب لفضائه النقديّ، بما يجعله مقبلاً على نوعيّات خاصّة من الشعر أو السرد أو غير ذلك من النتاج الإبداعيّ، وقد تقوده القراءة إلى كتابة نقديّة حول ما يقرأ كي تنتظم هذه الكتابة داخل مشروعه النقديّ؛ وقد يكتفي بالاستمتاع المجرّد من دون الشعور بالحاجة إلى كتابة نقديّة، فالأمر يتوقّف على حاجة الناقد إلى الكتابة حول ما يقرأ من أدب بناء على أسس معيّنة وتقاليد رصينة، تتلاءم مع فلسفته في الكتابة وشعوره بأنّ ما سيكتبه يمثّل فضلا عن منجزه الشخصيّ وإلى المنجز النقديّ العام على نحو من الأنحاء؛ لذا فهو يوليه عناية كبرى لا يمكن أن تفرّط بشروط
الكتابة العالية مهما كانت المبرّرات والأسباب والأحوال والظروف المحيطة بعملية الكتابة. يسير عالم اليوم - كما هو معروف وواضح وأكيد - بسرعة هائلة؛ وكأنّ الزمن طريدٌ من قوّة غامضة ومجهولة لا تسمح له أن يلتقط أنفاسه، فكيف يمكن للناقد -وهو يحتاج أكبر قدر من التأمّل في الظواهر والنصوص- أن يسخّر وقتاً طويلاً كي يقرأ نصاً أدبيّاً، أو يُعاين ظاهرة أدبيّة من وجوهها المختلفة؛ من أجل أن يكوّن
الفكرة النقديّة المطلوبة القادرة على إنتاج النقد، وحيث كنّا نسمع ونحن صغار مقولة "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" ولم نكن نعيرها أهميّة كافية، سقطنا اليوم في المحظور إذ لم نتمكّن من قطع الوقت فقطعنا، وصار سيفه مسلّطاً على رقابنا بما لا قوّة لنا على فعل شيء أكثر من الاستسلام له من دون قيد أو شرط، فأصبحنا جميعاً تحت رحمة الزمن بما لا يسمح لنا كثيراً الإيفاء الصريح والمناسب بمتطلّبات ما نحمل من ألقاب ومسمّيات أدبيّة، على النحو الذي يجعلنا مقصّرين على الرغم منّا، ونتحمّل كثير من اللوم في هذا الإطار.
يمكن القول إنَّ استشراء المجاملة والنفاق الأدبيّ هو من أبرز العوامل التي تخرّب الفضاء الأدبيّ والثقافيّ، حين تغيب الأمانة العلميّة والأخلاقيّة في منح نصوص عاديّة -وحتّى تافهة- مكانة نقديّة مهما كانت بسيطة وعابرة، ولعلّ من الواجب الضروريّ أن لا نسمح لمثل هذه الكتابات بأن تمرّ من دون كشف زيفها، لأنّها توهم الكاتب نفسه وقد توهم بعض من لا يدركون حقيقة الأمور بدقّة؛ ويحسبون أنّ إطراءً مجاملاً أو مزيّفاً لقصيدة أو قصّة أو رواية لا يحسن صاحبها كتابة جملة أدبيّة صحيحة هو حقيقة فعلاً، وما أكثر هذا في وسط الكتابة اليوم بما يجعل الحابل يختلط بالنابل أكثر من أيّ وقت مضى، ولم تعد الأمانة العلميّة والأخلاقيّة تحظى بأبسط قدر من العناية داخل فضاء مزيّف وموهوم وكاذب، يعجّ بالادّعاء والمجاملات وتبادل المظلّات والاحتفاءات الفجّة بكلّ من هبّ
ودبّ.
تحوّلت القراءة لدى القارئ الحقّ إلى محنة في هذا الفضاء المُغبر العائم الملتبس؛ ضمن فرص ضيّقة جداً لا تعطي مزيداً من الخيارات لأصحاب المشاريع المهمّة في التحديق نحو آفاق أوسع، تعينهم على تمثّل ما يحصل حولهم من تطوّرات كتابيّة قد تمرّ فيها تجارب مهمّة ونوعيّة -على ندرتها- من دون أن يلتفت إليها ويعيرها العناية المطلوبة، لأنّ عامل الثقة فيما ينشر يومياً بهذا الكمّ المستشري قد تراجع إلى مستوى مخيف، يجعل هذا القارئ الواعي يعزف عن متابعة هذا الحراك الهائل المنتشر على مساحة الأدب مثل فايروس مروّع،
لأنّ عليه أن يبحث عن إبرة صغيرة في أكوام لا حدود لها من القشّ، هكذا تحوّلت القضية إلى محنة كبيرة ومستعصية يستحيل ضبطها في رؤية عامّة موحّدة؛ لفرط التداخل والاشتباك والتقاطع والغموض والالتباس الذي يحيط بالمناخ الأدبيّ والثقافيّ
الراهن.
لا مناصَ إذن أمام الناقد سوى الانتماء إلى مشروعه الشخصيّ وإحاطة عمله بأكبر قدر من الوحدة والعزلة، بعيداً عن التورّط في الخوض داخل هذه البحيرة الراكدة بمياهها التي اقتربت من مرحلة العفونة -إن لم تكن قد تعدّتها- والعمل الجديّ النوعيّ الرصين ضمن حيّز ضيّق ومحسوب بدقّة، لكنّه مشحون بالنور لا يرى فيه إلّا ما يَسرّ ويُثري ويُغني بآيات الفنّ والجمال والصدق
والأصالة.