فيء ناصر البودكاست والثقافة الرقميَّة الجديدة
صفاء ذياب
بدأ البودكاست في أواخر العام 2004 من الجيل الثاني من الويب «ويب 2,0»؛ ولكن المقدرة على نشر وتوزيع الملفات الصوتية والمرئية كانت موجودة قبل الإنترنت. وفي شهر يونيو من العام 2005 قامت شركة آبل بإطلاق نسخة 4.9 من برنامج آيتونز، وتضمّنت مميّزات جديدة خاصة بالاشتراك والبحث والتحميل التلقائي لقنوات البودكاست ومن ثمَّ مزامنتها مع الأجهزة المحمولة، ممَّا أضاف دفعة قوية للبودكاست كوسيط رقمي للبث المسموع والمرئي عبر الإنترنت.
وعلى الرغم من أن البودكاست اقترن أساساً مع آيتونز كمبرمج صوتي، غير أنَّه تطوّر بشكل سريع وأصبح صورة وصوتاً في ثقافتنا الحالية، فاتجه له الكثير من المتابعين ما شكّل ثيمات جديدة في الثقافة الرقمية اليومية، ومن ثمَّ جذب الكثير من الشباب، وهو ما أدّى بشكل واضح لاستسهال تلقّي الثقافة، مبتعدين بذلك عن الثقافة التقليدية والكتاب الورقي بشكل عام..
وهنا نطرح تساؤلنا: هل انتشار البودكاست والبرامج الحوارية يمثل عودة للثقافة الشفاهية التي قد تؤدّي للابتعاد عن القراءة وتقاليدها؟
ثقافة السرعة والاختصار
يؤكّد الدكتور ظافر كاظم أنَّ هناك تراجعاً كبيراً لثقافة الكتاب والمكتبات يشهده العالم العربي على نحوٍ متسارع، وهذا يؤشّر بدوره إلى حالة من التراجع الفكري والثقافي. يقابله على أرض الواقع انتشار واسع للثقافة الرقمية، وتكاد برامج البودكاست والحوار والمحتوى الإلكتروني تحلُّ بديلاً كاملاً للكتاب والمكتبات التي تعاني باستمرار من تزايد العقبات وتراجع إقبال القرّاء الطامحين في أحسن الأحوال لما هو بسيط قريب المتناول. وشئنا أم أبينا سنعترف بهذا التراجع أمام الفضاء الرقمي المنفتح المتحرّر من القيود كلّها، في مقابل هيمنة القرارات الحكومية وتقييد الأفكار وغياب الدعم عن كلِّ ما لا يمثّل ترويجاً سياسياً أو حزبياً أو فئوياً. وفي ظلِّ ارتفاع التكاليف المادية والمعنوية تصبح صناعة الكتاب وثقافة الكتاب ورواجها مهدّدة بالزوال عربياً، بعد أن أغلقت دور نشر عريقة أبوابها، في حين تشهد ثقافة الحوارات وبرامج البودكاست أيَّاً كان محتواها وحقيقة مستواها تمدّداً مستمرّاً في مقابل تراجع إمبراطورية الكتاب القديمة التي آذنت شمسها بالأفول بسبب المعطيات الراهنة.
ويضيف كاظم: لطالما كان الكتاب ثمرة التأمّل والتدبر ونتاج الصبر وبذرة المعرفة وغاية الطامح إلى العلم الرصين والثقافة الرفيعة، وهو ما لم يعد بمقاييس اليوم عند كثيرين متناغماً مع عصر السرعة وطبيعة الحياة الماديّة النزعة. وفي الوقت الذي يبدو فيه الكتاب مطلباً صعباً إنتاجاً وتأليفاً ومستوىً معرفيّاً وصناعة، يفتح الفضاء الرقميّ أبوابه للجميع بلا شروطٍ تذكر أيَّاً كان مستوى تعليمهم وثقافتهم. ولا ينكر ما يمكن أن تقدّمه برامج البودكاست والبرامج الحوارية من وسيلة دعم للثقافة إذا كانت بمستوى يؤهّلها لبلوغ مثل هذه الوظيفة، لكن لا يمكن أن ينكر أيضاً ما تَسبّب به شيوع المحتوى السطحي والثقافة المتدنية من تراجع للكتاب الذي يتطلّب رواجه نزعة علميّة حقّة ومعرفةً لغويةً لائقةً على الأقل، والعكس صحيح أيضاً إذ يؤشّر تراجع الكتاب أمام هيمنة الثقافة الرقمية تراجعاً خطيراً على مستويات عدّة أبرزها اللغة؛ فغربة الثقافة اللغوية الفصحى تعاني اعتلالها المتزايد أمام تفشّي الحوارات والبودكاست المتحرّرة من شروط اللغة، والمنطلقة في أغلب الأحيان على سجيّتها في ظلِّ هيمنة ثقافةٍ شعبيّة سائدة، والمستقبل المنظور يفصح عن احتدام أزمة الكتاب والثقافة، بعد انضمام كثير من الجامعات العربية التي كانت فيما مضى على صداقة وطيدة مع الكتاب ومصادره المعرفية إلى ثقافة البودكاست، فأضحت تستبدل الكتب والمصادر المقرّرة للطلبة بمقاطع البودكاست والبرودكاست لا بوصفها وسائل مساعدة، بل أساسيّة، وهكذا تهيمن ثقافة السرعة والاختصار على ثقافة الرصانة والدقة واللغة الرفيعة المرتبطة بجوهرها بالكتاب.
القراءة الشفاهية
ويرى الدكتور عمار الياسري أنَّ الحداثة السائلة ساهمت في بروز الخطاب الشعبي وأفول النخبويّة التي تسيّدت المشهد الثقافي منذ سنوات طويلة، ومن تمثّلات الحداثة السائلة عودة الشفاهيّة التي قوّضت مركزيّة النص بوصفه سردية كبرى ينهض عليها فعل القراءة، فالوعي في صيرورة مستمرّة ما جعل آليات التلقّي في ذوبان دائم، لذا تسيّدت الشفاهيّة بوصفها العنصر المتسيّد الذي يقوم عليه فعل التواصل والمعلوماتية.
موضحاً أنَّ المتغيّرات التقنيّة والسسيوثقافية التي شيّدت عالم الرقمنة أسهمت في ظهور الأجناس الأدبيّة والفنيّة التفاعليّة ما جعل المتلقّي يذوب في الفضاء الأزرق مؤثراً ومتأثراً، فالفضاء التفاعلي يشتغل على المغايرة في فعل القراءة عبر آليات متعدّدة منها القراءة المختزلة والتعليق التفاعلي وذوبان الحدود التي تؤطّر مفهوم المثقف ممَّا ساعد على ظهور فعل القراءة الشفاهيّة.
شهدت مرحلة ما بعد التفاعليّة نمو الخطابات المكتوبة والمسموعة والمرئية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ممَّا ساهم في تضخيم الذات المشافهة عبر تلك الوسائل حتى صار الفعل الثقافي الشفاهي فعلاً لغوياً عنيفاً عبر السخرية من النظريات والمنظرين والقواعد والعارفين ممَّا جعل مشهد الشفاهيّة عصي على التقعيد، وهذا ما تشتغل عليه الحداثة السائلة التي تسعى إلى هدم التراتبيّة العتيقة للعلاقات التواصليّة بين الناص والنص والمنصوص له وفك العلاقة بين الدال والمدلول والعلة والمعلول في رحلتي هدم وبناء مستمرّتين، لذا شاع بين العامة والمثقفين الغارقيّن في عوالم الفضاء الأزرق البودكاست والبرامج الحوارية التي أضحت من أسطوريات زمننا السائل.
ثقافة معصرنة
ويبيّن الدكتور جبّار ماجد البهادلي أنَّ نتيجةً لاتّساع رِقعة العالم الافتراضي الكبير، وهيمنةِ مِساحته الرقمية الجديدة سريعاً على مُختلف نواحي الحياة العصرية المُتشعِّبة؛ وبسبب مُدخلات أثرِ ثورة الشّتات والتشظّي الإعلامي المُذهل الكثيف الذي أحدثه عالم شبكة التواصل الإلكتروني السريع فكرياً وذهنياً في المتلقّي، ظهرَ في أواخر العام 2004 إلى الوجود الثقافي الغربي في مجال التدوين المعرفي، أو البثِّ الصوتي مصطلح (البودكاست) الذي لاقى مفهومه الثقافي رواجاً واهتماماً كبيراً منقطعَ النظيرِ من قبل العَالم الأوربي الحديث، والعالم العربي الكبير. كونهُ أحد وسائل الإعلام الرقمي الجيبي الجديد المتعدُّد الوسائل والوسائط والقنوات الباعثة، الذي يُقدَّمُ من خلال برامج أو حلقاتٍ تكاد تكون في غالبيتها صوتيةً أو مرئيةً يستمع إليها المُشتركُ أو المتلقّي، أو ينظر إليها، أو يتابعها على عُجالةٍ من أمْره؛ بسبب إيقاع وتيرة الحياة العصريّة الحديثة التي تتطلّب ذلك النوع من البرامج الشفاهية، التي تختلف موضوعاتها بحسب اختلاف نوعية محتواها الفكري والثقافي والإعلامي. فضلاً عن تنوِّع مضامين فعل شخصياتها، واهتمام مُدوّنيها الفاعلين بجدواها.
فيطالعنا في هذا المجال العنكبوتي أنواعٌ عدةٌ من البودكاست الموضوعي، فنشاهدُ البودكاست السياسي الذي يهتمُّ بشؤون السياسة وفلسفتها الدوليّة والمحليّة، والبودكاست الاقتصادي، والاجتماعي والديني، والثقافي، والأدبي، والعلمي، والفنّي الجمالي، السّردي الذي يهتمُّ بتاريخ وأدب الرِّحلات السُّيريّة، فضلاً عن برامج أخرى عديدةٍ مُختلفةٍ في هذا الشأن الموضوعي النسقي الواسع.
الذي يهمُنا في هذا المضمار الإعلامي الخطير البودكاستُ الثقافي اللصيق بالحياة، والذي يُقدِّمُ للناس برامجَ حواريةً صوتيةً شفاهيةً مسموعةً أو مرئيةً منظورةً أخذت تنتشر عبر وسائل الاتّصال الرقمي في العالم كانتشار النّار في الهشيم. وقد يؤدّي رسوخها إلى الابتعاد قليلاً عن آليات التلقّي القرائي المعرفي الإنساني الورقي؛ لكونه تلقياً صوتياً شفاهياً سريعاً.
ولعلّ أسباب ذلكَ التوجّه الثقافي تعود إلى ميل الإنسان المُعصرن ورغبته في حبِّ لُغة الإيجاز والتكثيف واختصار الوقت والركون إلى السرعة التي تمنحها خدمة الأنترنيت لمشتركيها المتفاعلين.
مثل هذه الخُطواتِ والبرامج الحوارية الرقمية الدخيلة ليستْ عودةً لثقافة رواية المشافهة التقليديّة النسقيّة القديمة، ولا تُلغي أبداً دورَ ومهمّة القراءة التلقيدية المعروفة التي جَرتِ عليها العادة، بل تعدُّ أنساقاً ثقافيةً إعلاميةً جديدةً في ظاهرها القريب ومضمرها البعيد. وقد تعضّدُ تقاليد القراءة الورقية وتسندها وتضفي عليها شيئاً من أفانين المعرفة الفكرية والثقافية؛ باعتبارها في إيجازها وقصرها التكويني قد اختزلت موضوعاتٍ طويلةً، واختصرت كتباً ومدوّناتٍ كبيرةً في تكثيفها الصوتي والمرئي المسموع. لذلك فإنّ دولاً مثل اليابان والصين وأوروبا الغربية برغم ذلك التطوّر الرقمي الهائل الكبير الحاصل لديها فإنّها لا تستغني عن أُس القراءة التقليدية الورقية.
إذنْ هي لون من ألوان الثقافة الإشكالية المُعصرنة الجديدة كما هو حال الأدب الإشكالي لفن القِصّة القصيرة جدّاً، أو قصّة الومضة أو قصيدة الومضة، أو الهايكو الياباني، تلك الألوان التي حيّرتِ النُقّاد في خانة تجنيسها الأدبي.
ويعيدنا الشاعر عباس ريسان إلى معنى القراءة وتجلياتها أو بتعبيرٍ أدقّ؛ يعتمدُ فعل القراءة- كليَّاً- على ما يسمّى بالشغف أو اللّذة، تلك العلاقة الشفّافة التي تتحد عناصرها فيما بينها من أجل خلق مادة غنية بالفيتامينات المفيدة لروح العقل، التي تتكوّن من الكفّين والعينين والكتاب، هي علاقة روحية مضمرة، لن تستطيع مهما امتلكتَ من وعيّ وثقافةٍ أن تعبِّر عنها للآخر وتفكّك ماهيّتها، هي إحساس، طيرانٌ بلا أجنحة، غوصٌ في عوالم لا متناهيةٍ من الجمال والمتعة.
فالحوارات الثقافية موجودة أصلاً قبل وجود مثل هكذا برامج، في المقاهي التي تضمّ المثقفين وفي الأماسي والندوات التي كانت حافلة بالتلاقح الفكري، والنقاشات المفعمة بكلِّ فائدة، مهما كانت بسيطة أو معقّدة، وبالتالي لا يمكننا أن ننكر أهمّية مثل هكذا برامج على صعيد حياتنا الثقافية، ولاسيّما تلك التي تتمتّع بالرصانة الفكرية، مبتعدةً عن التسقيط والإسفاف، ووجودها وهمّها بشكل رئيس هو للثقافة فحسب، لا من أجل التقليل من شأن أديب أو كتاب معيّن.
البودكاست أو حوار المواجهة، يعدّه ريسان مثل الممثل الذي يجيدُ أداء دوره على خشبةِ المسرحِ والذي يكون على عكسِ أدائه في التلفزيون، الذي إن أخطأ باستطاعتهِ أن يعيدَ الحوارَ لأكثرِ من مرّة، وبكلِّ تأكيدٍ هو ليس بديلاً عن الكتابِ أبداً، ولن يكون، لكنَّه فعل إيجابي صادم ومبهر.
تداول شفاهي
ويشير الشاعر حيدر الحجاج إلى أنَّنا قديماً كنّا نتحرّى طبيعة الكتاب الذي نقرأه ونقطع شوطاً طويلاً في الوصول إليه، وأحياناً نفشل في ذلك الوصول بعد عناء ومحاولات تتخلّلها الحيلة والدهاء، وبرغم ذلك كنَّا نقرأ ونتعلّم ممّن سبقونا في تجارب جادة الأدب تلك الجادة التي استغرقنا فيها كثيراً لنمنحها من أعمارنا التي سلختها الحروب والحصارات وضنك العيش..
التداول الشفاهي في البرامج الحوارية سلاح ذو حدّين منها المنطقي الذي يجترك إلى أفكار ورؤى ذات طرح له منفعته التي تؤدّي لنتاج مشترك بأساليب واعية تنمّي قدرة الآخر لاستقبال أفكار جديدة يمكن الاستفادة منها، في حين أنَّ في الطرف الآخر لتلك الحواريات استلاب واضح لذائقة المجتمع والتعدّي على تلك الذائقة بمناكدات سطحية خالية من المعرفة والمثاقفة من أجل خلق صورة واعية للميديا التي تناصر بعض هذه السطحيات، لذا من الطبيعي أن تبقى الوسائل الأخرى كرديف حقيقي للباحث والمتلقّي في حفريات المعرفة والقراءة هي المحصّن الأوّل في تنشئة مجتمع واعٍ وخلافها ينتج العكس وبالمحصّلة النهائية الحوار الشفاهي لا يمكنه إلغاء دور الكتاب كمغذٍّ ورافد لا يمكن الاستغناء عنه لصقل أبجديات الفكر الأساسية.
أداة جديدة للتعلم
ويختتم الشاعر ناصر العتابي حديثنا كاشفاً أنَّ انتشار البودكاست والبرامج الحوارية يشكّل ظاهرة ملحوظة في العصر الرقمي، إذ أصبحت وسائل التواصل الصوتية خياراً مفضّلاً للعديد من الأفراد بسبب سهولة الوصول إليها وإمكانية الاستماع في أثناء أداء أنشطة أخرى. لكن هل يمثّل هذا التحوّل عودة للثقافة الشفاهية على حساب القراءة؟
يمكن القول إنَّ البودكاست يعيد إحياء بعض ملامح الثقافة الشفاهية التي كانت سائدة قبل الكتابة والطباعة. فهو يعتمد على السرد الصوتي والنقاش المباشر، ممَّا يعزّز تجربة التفاعل العاطفي والشخصي مع المحتوى. ومع ذلك، لا يعني هذا بالضرورة الابتعاد عن القراءة، بل يمكن أن يكون مكمّلاً لها. فالكثير من البرامج الحوارية تستند إلى كتب وأبحاث، وتساهم في تبسيطها ونقلها إلى جمهور أوسع.
التحدّي الحقيقي يكمن في الموازنة. إذا اعتمد الأفراد بشكل مفرط على الوسائط الصوتية فقط، قد يقلّل ذلك من فرص التعمّق والتمعّن التي توفّرها القراءة التقليدية. فالقراءة تتطلّب تركيزاً واستقلالية فكرية لا توفّرها غالباً الثقافة الشفاهية.
في النهاية، البودكاست ليس بديلاً عن القراءة، بل أداة جديدة للتعلم والنقاش. دوره يعتمد على كيفية استخدامه ومدى وعي الجمهور بأهمية الحفاظ على تقاليد القراءة إلى جانب استثمار الفرص التي يوفرها العالم الرقمي.