{فورور} لنزار عبد الستار.. امرأة من زمنٍ لم يكن جميلاً

ثقافة 2024/12/18
...

يقظان التقي 




صدرت حديثاً عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان رواية “فورور” للكاتب العراقي نزار عبد الستار، يقص فيها حكاية جميلة بين الواقع والخيال عن صابر عفيف الذي لم يتخلص من رائحة أمّه. يقتفيها من خلال بحثه عن مشلح من الفورور، لامس كتفيها ذات يوم قبل أن ينتقل من كتف إلى آخر في أوساط طبقة المشاهير والأثرياء. الفورور هو ذريعة لمطاردة سيرتها من كبارية “مولان روج” في بغداد، وصولاً إلى مصر ولبنان. قصة فورور ارتدته مريم فخر الدين في عزّها الفني والجمالي، وهي تصور أغنية “بتلوموني ليه” لعبد الحليم حافظ في فيلم “حكاية حب”. زمن رومانسي يتنقل بين مدن عدة، أبطاله فريد الأطرش وفيلمون وهبي والشهبانو فرح ديبا بهلوي، وفضاءاته المزادات الشهيرة في لندن، تحديداً “كريستيز” وعوالم تجارة الفن ودنيا المال والحياة المخملية.

أمضى صابر ثلاث سنوات يسرف في التفكير وفي إنتاج تخيّلات مشبّعة بالرومانسية عن رد فعل الشهبانو فرح ديبا بهلوي، إذا ما علمت أن الفورور السواريه الشنشيلا البيج هو ملك مونولوجيست كباريه في بغداد، وحيدة جميل. انتبه صابر عفيف مبكراً إلى احتمالية ألا يكون بحوزتها. ربما تخلت عنه في القاهرة بعد موت الشاه، أو فقدته في تنقلاتها الكثيرة بين أميركا وفرنسا، قبل أن تنشر مجلة “فوغ” صورة جانبية للشهبانو مرتدية الفورور في ملتقى لمناصرة المرأة الإيرانية في باريس. الفورور السواريه، الوحيد الذي كان يشعر وحيدة جميل بأنها امرأة محترمة. وحيدة لم تخلع الفورور صيفاً، لذلك كانت تنال السخرية دون انتباه. كانت بيروت ساحرة بأضوائها وليلها الفاتن، وتبدو ثرية ومبتهجة بالبحر. ظنت وحيدة أنها منتمية إلى ذلك البذخ ما دام الفورور على كتفيها. لكن الأيام الثقيلة التي مرت بعد ذلك جعلتها تتآكل قلقاً، وتذوب ثقتها بالمستقبل. بقيت ترفض عروض فيلمون وهبة وكلها أمل بأن يدخل فريد الأطرش إلى مرقص “لوبريستول” ويقبل يدها معتذراً عن التأخير بالقدوم إلى بيروت. سافرت بملابسها القديمة وفوروروها السواريه الشنشيلا البيج إلى القاهرة سنة 1958 على أمل مقابلة فريد الأطرش هناك. بقيت تتردد على استوديو مصر مثل حلوى عروسة المولد، إلى أن تعرفت على المخرج طلبة رضوان الذي أشركها ككومبارس في أحد الافلام، واستدعاها مرة كمساعد مخرج في فيلم “حكاية حب”. ظهرت في الفيلم وهي ترقص السلو بقصة شعر أفعى الكوبرا، وكان عليها أن تخلع الفورور لأنه لا يناسب المشهد، وظهرت مريم فخر الدين بشال كروشيه أسود، فاستبدله المخرج حلمي حليم بالفورور لتصوير الأغنية، ليضيع في استوديو مصر في أيام التصوير التي امتدت لأسابيع، ولتبدأ رحلة البحث عن مصيره. إنه إرث عائلي لمونولوجيست بغدادية اكتسبت شهرة في بيروت، وشقيقتها بدرية التي تعزف على الكمان ببراعة وهي امرأة حقيقية. كلتاهما أضاعت أهم ما لديهما على كتفيهما: الفورور على جسدها كورقة مشمش قلبية، والكمان التاريخي الإيطالي من صناعة أنطونيو ستراديفاري، قبل أن تلاقيا الموت في بيروت. لم يكن فيلمون وهبي الوحيد الذي أعجب بوحيدة جميل وتقبيله يدها، شخصيات عدة فنية ودبلوماسية وملحقون عسكريون ووزراء ومن بينهم وزير الدفاع السوفيتي الذي أهدى الفورور السواريه الشنشيلا البيج إلى الرفيقة وحيدة جميل تعبيراً عن إعجاب الرفيق نيكيتا سيرغيفيتش خروتشوف بنضال المرأة العراقية من أجل الحرية.

الفورور البعيد المنال، تعبير عن انتماء للطبقة الثرية. إنه الحنين إلى الشخوص ذات التأثير والمجتمع الإنساني المفتوح. يتسلل نزار عبد الستار عبر الفضاء التشكيلي الواسع ليعبر أكثر من مكان، بطريقة تعبير سلسة دينامية. يتحرك في الزمان والمكان، وتحويل السرد إلى كيان أدبي يجري تمثيله والمزج ما بين الصورة الواقعية والمتخيّلة في الفنون التعبيرية، ويطغى العنصر الزمني بوضوح تام، زمن أساسي يشكل شخصيات الرواية والتعبير عن نفسها بالمشاعر والمواقف والظروف والعلاقات. 

 وحيدة جميل ترجمة لجماليات إمرأة، هي قبل كل شيء، زمان وأكثر، ومن دون الزمان في عقد الستينات والسبعينات لا يمكن فهم الرواية ولا شرحها. الزمان في الرواية، يعني الذاكرة، العلاقات الوجدانية، النجومية، صلابة صابر المباشرة. استرداد الفورور، ليس بالسهل ولا البسيط، على الرغم من أنه يبدو في السياق الروائي عكس ذلك تماماً، وبمجازفة ملتحقة بها، ويضيف إليها الراوي واقعاً مكملاً لها هو الوحدة، وحزن وفرح للشعور لتمكنه أخيراً من العثور على الفورور. 

نزار عبد الستار صاحب مهنة عالية هي الفيلولوجيا. كاتب ممتاز، أحد الأعلام الروائية بتدفقٍ وحيوية وكياسة يتم التفكير بها جيداً، وتدرجها وتطورها بشكل جيد جداً. والرواية تمثل قطعة فنية، كياناً إنسانياً، يأخذ تدريجياً القارئ ويكتسب القوة بفصول متتالية لذيذة. إنَّ الأمر لا يتعلق بمسألة المشاعر والومضات والتلميحات والوقفات والرغبات، بل بذائقة الطبيعة المؤنثة بالتفصيل الذي تجري في الكتاب وبالتسامح والتصالح مع عالم سفلي، “ فورور أمي وكمان خالتي هما مصالحتي مع العار الذي عاش يدور في دمي دون أن أكلم نفسي به. العار لا يبدو واضحاً لنا مثل المياه الغازية والفاست فود. هو بعيد عن الإدراك مثل الكريات الحمر. حين أحصل على فورور أمي سأرتدي ثياباً تليق بي وبثروتي وأشتري سيارة فخمة وأدخل التلفزيون إلى شقتي وأدخن السيجار الغالي علناً”. 

رواية امرأة، راقصة/ فنانة وأشياء أخرى تعبر بها في زمن فني كبير، وعلاقات نشأت بينها وبين نجوم تلك الفترة، ويتقلص الفارق الزمني معها، ما يمنح الرواية تلك الميزات والأبعاد. هي قصة الفورور وأبعد، استنتاجات جانبية تتجاوز موضوع الموضة والتصاميم إلى ثقافة مجتمعات وتجربة حياتية. هي جزء من الحبكة الروائية بشكل عام. تتجه الرواية إلى ماض جميل، والأرض التي تتبعها في دول مثل لبنان ومصر والعراق والقاهرة ولندن والإمارات، وعناصر تخصّ المرأة وتشكل هويتها وتنتقل إلى مستقبل الأحداث في معبد البارثينيين والقراءة في مستقبل العلاقات الدولية وخريطة الأرض وعالم الطيش والإسراف في نيويورك. ليس القصد هو التشابك المعقد لمشهد الفورور والتجانسات والخصائص والاختلافات التي تتميز بها أنثروبولوجيا المشرق، وفي الإشارة إلى المكون الحاسم لماهية وحيدة جميل الشرقية الجمالية في تقاطعها وتعاطفها مع الغرب. ثم جمالية العوالم السفلية وعناصر أخرى تداخلت وتفاعلت مع امرأة راقصة، مثل سيلين موظفة التنظيف وعاملة المطبخ والرفيقة العاطفية “بعيداً عن كلمات الحب السخيفة”، وبين عالم أرستقراطي حاضر بقوة، وصابر عفيف الأكثر نشاطاً وحسماً في رفضه له. وللفن الحديث كتضخم في الإدراك البصري بسبب الماريجوانا. ينجح نزار عبد الستار في إثارة إشارات تقرأ بانتباه قريب، حين يعود إلى معالجة الماضي ويكتب بشكل مدهش وذي دلالات عن السوق الفنية وأغراضها وكواليسها، وينتهي ملتزماً بعصر من تحرير اللوحة والمرأة والتمتع بحقوق العامة والمدينة كافة. الفورور مثل الماضي العنيف الذي لا يمكن تذكره بسهولة، وعلى شكل إحساس يستعصي على التصوير. شعور سيئ يريد تمثيله فيكتشف أنه لا يمكن ذلك، حين يكتشف أنه إحساس سامي بالأشياء. اللوحة تشكل جزءاً مهماً للغاية في المشروع التحرير الحالي وسط تقاطع تسويقي استهلاكي. تظهر الرواية شهادة مثقفة وذات قيمة وتكتسب شخصيتها بعداً أكبر متجاوزة حدودها الشخصية داخل جدران دار العرض وخارجها، فاللوحة هي الرؤية الفنية وهي أساس المستقبل. 

يكتب عبد الستار بدقة ونجاح وإحساس وذوق فني متحدر من السمات الشخصية لتلك المرأة، والرواية جرى تقديمها كتحفة فنية على خشبة مسرح دينامي ونابض بالحياة. هي روح المدينة ذاتها لصابر عفيف في بحثه عن مصير الفورور كقضية في التأكيد الذاتي وعبر مصطلحات تشكيلية لها حقيقتها وانفعاليتها، ولجهة أهمية التمييز بين الاستلاب والاستغلال في عرض اللوحات وبيعها، وما يجري خلف الستارة من قبل المجتمع البرجوازي، السلوكيات الثقافية خلف اللوحة وما تحجبه، ولجهة قيمة استعمال الأعمال الفنية كعبارة عن نسق حاجيات وعلاقات اجتماعية في ما يتجاوز الرؤية العفوية للأشياء، ودور الوسيط كدالة اجتماعية للمجتمعات الضعيفة كنوع من الإكراه الثقافي بمعزل عن قيمة التبادل الإنساني المنتج بصفته مبدعاً. أي أن تلمس دار العرض الأشياء والحقائق الفنية بشكل استعاري، أن تدجن كل ما هو طبيعي بطريقة متناقضة وغير منسجمة مع الفن الحديث الذي يكشف التناقضات الاجتماعية في مسألة الحضور والعرض، وانتفاء الأشياء التي تلهم الإحساس وباللايقين بتلك المؤسسات وسذاجة الفن وموت الذاتي والتجربة. فتصبح اللوحة حدثاً، حين تلتقط لحظة التسويق فقط، وهو ما لا تفهمه التصورات التشكيلية والمنظورات الشاملة في تحديد مكان العمل الفني وبيئته، ما يحيلنا إلى أسئلة عن مصير الفنون خارج منطق الاتيقا والابستيمولوجيا والبعد عن منطق الأخلاق في مسألة إرادة ورغبة القيمين على السوق الفنية العالمية. كما الصدمة التي ليست للقراءة، بل للرؤية، والرؤية هي رقصة، أن تشاهد لوحة/ امرأة، هو أن ترسم فيها بمعيّة وتتحرك معها، وتخلص إلى عمق الوحدة، وحدة الحقيقة واستيهام الأصل. 

الروائي نزار عبد الستار يتفلت في الوصف والصور البلاغية ويتعامل مع فضاء تشكيلي ومصطلحات كأشياء محسوسة، يفتح النص التشكيلي على آخره وبأسمائه والتعايش بين فضاءاته. ليس النص فحسب، بل أيضاً نقد له. فاللوحة هي المدينة، الأسئلة والتحولات. لندن مدينة كبرى المزادات العالمية والسؤال عن اللوحة في مكانه الطبيعي وكذلك التعاطي مع السوق الفنية العالمية. والرسم كما الأمور الأخرى يحمل فعل الحرية، صناعة متعة وتجارة، ويستعرضها الراوي كما لو أنها ملك ثقافة للآخر. الفورولا، كما اللوحة قيمته بالنهاية للربط مع كل ما يصنع حداثة، ويحيلنا الكاتب أيضا إلى اللوحة اليوم، كقيمة ادخارية واستثمارية لدى أصحاب المقتنيات والشركات والبورصات الكبرى، واللوحة في فن الادخار أفضل من سائر العملات. ليس محور الرواية هو النقد. لكن النقد قائم في مخيلات وسمات المشترين وجماهير الصالات الذين يثيرون الفضائح حين تتحرك اللوحة تحت الضوء وعلى الألسن وفي الإعلام، والنقد أن ترى إلى العمل وفي حالتك أنت، انفعالك مع اللوحة، شعورك، الرغبة في اقتناء الأعمال الفنية، لكن ليس النقد أن يقرأ صابر عفيف في اللوحة، بل في فراغات من حولها في عدم المساواة مع الفنون البرازيلية والكوبية، في الذوق الفني وسخافات كريستيز، الصمت إزاء ما يجري في السوق وإشكالية التسعير، وإقطاعيات تملك وسائل الاتصال والتواصل والمال بلا إشارات مشجعة، أشبه بعودة إقطاعيات القرون الوسطى، أو الهرب مع اللوحة من كل شيء. ولا يخفي نزار عبد الستار عشقه لبيروت وعلى أنها تقوم على تراكم ثقافي يتفجر معاً، ويطلع من كل شيء. لم يكن الفورور مجرد بعد تزييني في صندوق فيرزاتشي، بل هي خيوط البعد التأملي والحنين بين زمنين، والمجتمع المفتوح من “مولان روج” في بغداد إلى موت القبور التي تقدم للأرواح خدمة سفر سريعة. صابر عفيف سيئ الحظ مع الفرح، فنان في علاقاته هو “القط الأسود” المتنكر، يستخدم آلية مرنة في صراع الأفكار في مدينة لندن الأكثر احتمالاً في التعبير عن الرغبات (جاد هاريل)، يعرف كيف يقدم تصوراته، يقيم “السياسيين المناضلين اللصوص”، يقيم علاقاته مع النساء من دون التركيز كثيراً على الجانب البوهيمي في إدارة مصالح الأرامل من عائلات أرستقراطية، يحضن سيلين كأيامه الهادئة، ويكتفي بمعاينة أندريراتها و”جمال جسدها الخلفي وهي صامتة متأنية مثلما كانت تفعل أمه”. ومن دون أن يثير ضجة كبرى مع الأرستقراطية يقرر في النهاية أن يترك كل شيء وراءه، ليعود إلى فجيعته العائلية التي أضعفته على قبر والدته. مجرد شاهد على قبر اختفى وضاع بين المقابر في جبانة الباشورا، ويتلاشى معه كصندوق عتيق، كأي شيء آخر. فوحيدة جميل كانت علامة فارقة في زمن فارق. لكن لا تؤخذ الرواية في سيرة نسائية فقط، منفصلة عن تلك الظواهر المخيلة والمتعددة والمتناقضة، ما يجسد عالماً ومساحة سحرية أشبه بشاشة سينمائية، التي لا نراها عادة تتحرك في الضوء في الكبارية في حي الكرادة، كما حادثة اختفاء الضوء مع فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومريم فخر الدين وفيلمون وهبي وفرح ديبا بهلوي وجيهان السادات وحافظ الدروبي ومحمود سعيد. وضوء سيلين الخادمة، سوق الفن واللوحة الإغوائية في زوايا لندن ولشبونة اللوحة وأحياناً “اللازمن” والخوف من طيران الأشياء، كأنها النقلة الأخيرة من الأشياء. لا يوجد للخير والفرح أفق موحد. لا نتلمس الأشياء إلا بشكل استعاري حين تسود العلاقات الإنسانية التجارية الخاضعة لمنطق السوق وعالم سخيف، وليس الحب والتجريب والابتكار والجنون والالتزام الأخلاقي والشغف. 

هو نزار عبد الستار المتدفق والمتشظي في الصور والرموز والتأثيرات الغنائية والرومانسية وبالواقعية في جعل الظواهر تتكرر، كأنها “العصر الذهبي”، والنقدية الساخرة لما يطيح بتلك الجماليات، يحافظ على أسلوبه يعبر فيه بسلاسة الفكرة واللغوية والرمزية والبلاغة بعباراتها البسيطة وفي أدب غريزي بالفصحى والعامية من المطبخ إلى البلاتو، يرتدي أزياءه الخاصة وبذهب إلى الاختباء في صفة نادرة وفي لحظاتها التعبيرية القوية جداً وباستدارات لمكنونات ذاتية، متصلة بدفقٍ وبدفعة واحدة.