سلوى عباس
تضمنت الحوارات بين بطلي مسلسل “الغفران” في حلقاته الأولى مقولات جديدة وأفكار غير اعتيادية في الحب والصداقة والحياة، وقد عكست بالدرجة الأولى قناعات خاصة لدى عزة (سلافة معمار)، التي تملك مفهوماً خاصاً في العلاقات والزواج، وأكثر ما تبدّى ذلك، من خلال مبادرتها طلب الاقتران بأمجد (باسل خياط)، سعياً وراء صداقته أساساً، والتي لا يمكن أن تبنيها خارج إطار الزواج، في مجتمع شرقي.
تتمثل مقولة العمل – الذي يُعرض على قناة سما الفضائية- بحالة الخذلان التي يعيشها المرء جرَّاء صدمته بالثقة التي يمنحها لأصدقاء لا يثبتون جدارتهم بها ويتسبّبون له بالأذى، من دون أن يدركوا حجم الأذى الذي سببوه لصديقهم، لكنهم فيما بعد يعيشون حالة من الندم التي لا يستطيعون معها أن يغفروا لأنفسهم ما تصرفوا به تجاه هذه الصداقة.
وتتجلى المجسدات الدرامية لهذه المقولة عبر علاقة رجل وامرأة تعاهدا على الصداقة التي هي إحساس بالأمان والثقة التي تتضمن الصراحة والصدق، هذه المقولة تقدم ضمن قالب درامي معاصر، وهي قصة حب تنتمي لزمان ومكان وليست معلقة في الهواء، وبالتالي فإنها من خلال الجانب الحكائي الصغير والبسيط تنمو في إطار الواقع الحياتي الذي نعيشه وما يتخلله من مفارقات واختلاطات في وضع، شوارعنا، بيئتنا، الماء والكهرباء، ومعاناتنا الحياتية اليومية التي ليست هي جوهر القصة، وإنما هي المناخ العام الذي تنمو فيه هذه القصة.
تبدأ القصة قبل بداية العمل بعشر سنوات، من خلال علاقة مراهقة بين شاب وفتاة، في حارة من حارات الطبقة الوسطى، يلتقيان في الوظيفة، وهذا ما نكتشفه في سياق العمل أنهما يعرفان بعضهما منذ عشر سنوات، وأحبا بعضهما، ولسبب ما يرحل أهل الفتاة من الحارة فينقطع الشاب والفتاة عن اللقاء مع بعضهما، فهما قبل عشر سنوات لم يكونا يملكان زمام أمورهما، واليوم يلتقيان بأواسط العشرينيات من العمر بعيداً عن سيطرة الأهل، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل يتجدد هذا الحب؟.
ما يتبين من تسلسل الأحداث أنه يتجدد، لكنه لا يستمر وهنا مكمن القصة الرئيسي رغم أنهما يتزوجان، ويشكلان بيتاً وأسرة، لكن الحب القديم الذي اشتعل بعد عشر سنوات، والذي تمخَّض عن علاقة يفترض أن تكون جيدة ومبشّرة بمستقبل ظريف تتعثر هذه العلاقة بألم، نتيجة إحساس هذه المرأة بلحظة من اللحظات أنها تسرَّعت في قرارها، أو أن شعلة الحب لم تكن حقيقية، وفي لحظة ضعف ذهب قرارها باتجاه آخر وافترقت عن حبيبها، وفيما بعد ندمت على تصرفها لكن بعد فوات الأوان حيث يبدأ الوجع والألم نتيجة هذا الندم وتبحث عن الغفران، فهل يتم هذا الغفران؟ وهي هل تطلب الغفران من نفسها أم من محيطها أم من الرجل الذي خانته وسببت له الألم، الأمر يبدو وكأنها تطلب الغفران منه لكنه لا يستطيع أن يغفر، ولو أنه لاحقاً يشعر بأهمية الغفران، وما نكتشفه أن مشكلتها في عدم مقدرتها على الغفران لنفسها، وبالتالي حتى محاولاته اللاحقة بالعودة لا تتم، لأنها فعلاً لا تستطيع أن تغفر لنفسها خطيئتها، فالمقولة تتجسد في فكرة أنه قبل أن نغفر للشخص الذي أسأنا إليه، أن نستطيع الغفران لأنفسنا.
لعل الجديد الذي قدّمه الكاتب الراحل حسن سامي يوسف في هذا العمل هو بحثه في دواخل الشخصيات، لأنه المجال الذي لا ينضب بسبب اختلاف كل نفس عن الأخرى، مما يعطي هامشاً واسعاً يمكن للإنسان أن يتحرك فيه، وأن ينبش داخل الناس وما يختلج في أنفسهم سواء في الحب، الحرب، الغش، الصداقة، أو أي موضوع يتاح تناوله من زوايا ليست معروفة للمشاهد، من منطلق البحث عند أشخاص لديهم سلوك آخر تجاه أي موضوع، ولعل اكتشاف أمجد “لخيانة” زوجته، ولّد لدى المشاهد رغبة متابعة العمل ومعرفة تفاصيل الحكاية، وربما قبل ذلك المشهد، أي لحظة زيارة “عزة” لمنزلهما الزوجي وإحساسها أنها ما زالت تحب زوجها وتقرر الرجوع إليه، فاكتشاف الزوج لعلاقة زوجته مع الأستاذ محمود (قيس الشيخ نجيب)، تجلى في مشاهد درامية احترافية على مستوى النص والإخراج والتمثيل، وتأكيد موهبة الراحل حاتم علي الإخراجية. فكانت المواجهات بين الزوجين، ومحاولات الزوجة طلب الغفران من زوجها، تأخذ الحوارات إلى العمق والتجديد بالشكل والمضمون، وتنحو بالإخراج منحى يعتمد على الواقعية والصدق، ورصد ردود فعل الزوجين في منزلهما التي تناوبت بين غرفتي الجلوس والنوم، وبين المقعد والسرير، وهو رصد نقل أدق الانفعالات وأكثرها شفافية لحالة من هذا النوع، تضاربت عبرها مشاعر الحب مع عدم الثقة تارة، ومع الشعور بالذنب تارة أخرى، فـ”نصيبُك في حياتك من حبيبٍ/ نصيبُك في منامك من خيالِ” هذا البيت الشعري الذي جسدته موسيقى المبدع إياد الريماوي برومانسية حزينة عبّر بكل أحداث العمل عن مكابدات الشاعر المتنبي من حبه لامرأة كان نصيبه من حبها كمن يرى خيالاً مرّ في منام، وهذا ما عاشه “أمجد” في نكسته العاطفية في “الغفران”.