عدنان حسين أحمد
لم ينحسر نشاط الفنانة التشكيليَّة بتول الفكيكي ذات يوم، ولم يفتر شغفها الإبداعي المتواصل‘ فهي لا تزال حاضرة سواء في معارضها الشخصية المتباعدة نسبيًا أو المُشاركة في المعارض الجماعية التي تروق لها أو تتناسب مع ذائقتها الفنية المُرهَفة التي تبحث عن أندادٍ لها. فهذه الفنانة المبدعة هي "من نسيج وحدها" حقًا على صعيد الدأب والمثابرة والانهماك في تجاربها الفنية التي تتجاوز الرسم إلى النحت، والسيراميك، وحياكة السجّاد، والطرق على النحاس، والحفر على الخشب وما إلى ذلك من تنويعات فنية برعت بها الفكيكي إلى جانب تألقها في خلق اللوحة الفنية وتجسيدها على مختلف الأسطح التصويرية.
لا أريد الإسهاب في الحديث عن المراحل الفنية للفكيكي فهي معروفة للنقّاد والمتابعين الحريصين على تجربتها الفنية بشكل عام فهي تركّز على ثنائية المرأة والرجل منذ العهد السومري المُوغل في القِدم وحتى الوقت الحاضر, ولا تكتفي برصد هذه الثنائية وتجسيدها وتفكيكك عناصرها الأوّلية وإنما تتخطاها إلى فكرة الظل أو النِدّ أو القرين الذي يحضر كلّما دعت الحاجة إلى ذلك.
قد تندرج نتاجات الفكيكي في إطار المدرسة الواقعية, لكنها في واقع الحال تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير, لأنّ لوحاتها مرصّعة بالرموز والإشارات التي تجعلها رمزية بامتياز، ولعلها تتحول في بعض الأحيان إلى حاضنة للميثولوجيا الرافدينية على وجه التحديد، وأكثر من ذلك فإن لوحاتها "موسيقية" كما تذهب هي في التعريف بتجربتها الفنية في كتالوغات معارضها الشخصية والجماعية.
وانطلاقا من هذا البُعد الرمزي أقول إنّ الناقد والمنظِّر الفني كلايف بيل، صاحب كتاب "الفن" يفرِّق بين العمل الفني والعمل العادي الذي لا ينتمي إلى الفن من قريب أو بعيد بواسطة التجربة الجمالية. ويضيف بأنّ اللوحة أو المنحوتة تُصبح عملًا فنيًا إذا أثارت فينا انفعالًا خاصًا يسمّيه "بالانفعال الجمالي". وهذا الانفعال "هو نوع من العاطفة التي نشعر بها عندما نتذوّق العمل الفني جماليًا". ولكن ما هي هذه الصفة التي تثير فينا، نحن المتلقّين العضويين، هذا الانفعال الجمالي أو الإستيطيقي على وجه التحديد فتأتي الإجابة من كلايف بيل نفسه بأنها الشكل الدال هو الذي يميّز الأعمال الفنية عن الأعمال العادية التي تخلو من اللمسات الفنية، وهو طريقة أو أسلوب تنظيم العناصر الحسيّة الخاصة التي تحرّك مشاعرنا وأحاسيسنا الداخلية وتُشعِرنا بالنشوة العارمة لأننا نقف أمام عمل فني حُبكت فيه الخطوط والألوان بطريقة فريدة ومُبدعة تنطوي على قدرة تعبيرية فائقة تجعل المتلقي يشعر بالنفحة الإبداعية للعمل الفني الذي يهزّ متلقّيه ويضعهُ في دائرة الفتنة والذهول
والانبهار.
قد لا أغالي إذا قلت بأن غالبية أعمال الفكيكي تنطوي على هذه الأشكال الدّالة؛ وأعني بها الرموز والعلامات والشيفرات المستوحاة من الحضارات العراقية القديمة مُضافًا إليها الإشارات الميثولوجية التي تزدان بها الثقافة الشعبية العراقية، وخاصة المراقد الدينية التي اعتادت الفنانة على ارتيادها برفقة والدتها الكريمة في سنوات الطفولة والصبا والتكوين الثقافي والفني الذي سوف يُصبح نوعًا من الخزين البصري الذي تمتحُّ منه الفنانة موضوعاتها وبعض أشكالها الفنية
الدالة.
إذا كانت رسوم وتخطيطات ولوحات الفكيكي واقعية في مرحلة مبكرة من حياتها، فإنها أصبحت رمزية وتعبيرية بامتياز، وربما ذهب البعض منها إلى التجريد المدروس الذي حوّل لوحتها الفنية إلى أيقونة جمالية مضيئة شديدة الإبهار.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الدراسة النقدية هي أشبه بالتوطئة أو المدخل للولوج إلى عالم التجربة الفنية لبتول الفكيكي التي ترصد منذ زمن بعيد ثنائية الروح والجسد‘ منذ عهد عشتار إلى يوم الناس هذا، وقد كانت جريئة في التعبير عما يجول في خاطرها من رؤى وأفكار وهواجس فنية أراها قريبة جدًا في أشكالها الدّالة والمُعبرة وفي قدرتها على إثارة الجمال الإستيطيقي الذي أشار إليه، ونظّر له الناقد الفني كلايف بيل وآزره الناقدان الفنيان والمنظِّران الجماليان البريطانيان هربرت ريد وروجر
فراي.