الدكتور مُصطفى جَواد يُحلِّلُ ذاكرتَه الاستثنائيّةَ في أُولى مقالاته
حسين محمد عجيل
كانت الذاكرة الوقادة للعلامة مصطفى جواد (1906 - 1969)، من أولى السمات البارزة التي لفتت الانتباه إليه في بداياته، ومنحته اهتمامَ أساتذته الأوائل، ثمّ رافقته في رحلته المعرفيّة الطويلة، فاستثمرها خير استثمار، سواء في أبحاثه ودراساته وتحقيقاته وترجماته وتآليفه ومحاضراته وبرامجه الإذاعيّة والتلفازية، أو في مهنته معلما، فمدرِّسا ثمَّ أستاذا أكاديميا بدار المعلمين العالية وكليّة الآداب، ثمّ مجمعيًّا بارزا، ولم تخذله ذاكرته الجبّارة حتى النهاية، لكنها لو لم تتضافر مع جُملة من سمات النبوغ الأخرى لما شكلت فارقا يذكر، ولما أصبح هو الظاهرة الثقافيّة في تاريخ البلاد.
وقد ثبت عندي- من خلال تتبُّعي لسيرته ومُنجزه الكتابيّ المُبكِّر- أنّه كان مُدرِكًا كُلَّ الإدراك لهذه السّمة المُثيرة لانتباهِ مُحيطه العام، فطَفِقَ- قبل بُلُوغه العشرين- يبحثُ فيها ويدرسها ويُحلِّلها على نحوٍ علميٍّ يستحقّ التّوقّفَ عنده، لا سيما أنّ تفاصيل تلك الدراسة وذاك البحث والتّحليل مُوثّقةٌ في مقطوعةٍ شعريةٍ ومقالةٍ منشورتين في مجلةٍ بغداديّةٍ قبل 99 عامًا، فأمّا المقطوعة فقد نشرَ قبلها قصائدَ ومقطوعاتٍ كثيرةً مُنذ نَيْسان 1923، وأمّا المقالةُ فتُعدُّ الأُولى في حياته.
وبمُناسبة حُلول الذّكرى 55 لرحيله، التي صادفت يوم الثلاثاء 17 كانون الأوّل، رأيتُ أن يكونَ إحياؤها مُقترِنًا بالكشف عن مقالته الأُولى المنشورةِ بمجلّة (المُعلّمين) يوم 1 أيار 1925م بعد شهرٍ من نشْرِ مقطوعته الشعريّة فيها.
دهشةُ الأساتذةِ الأوائل ورعايتُهم
بعد شهرين على اندلاع الحرب العالميّة الأُولى سنة 1914، انتظمَ مُصطفى جَواد تلميذًا في (المكتب)- بحسب تسمية نظام التعليم العُثمانيّ- ببلدته دَلْتاوة (الخالص حاليًّا) التي انتقلت إليها أُسرتُه من بغدادَ، وكانت مدّة الدّراسة الابتدائيّة فيه أربعة أعوام، وبعد الاحتلال الإنكليزيّ (آذار 1917) بمُدّة تحوّل المكتب إلى مدرسة دَلْتاوة الابتدائيّة، وكانت قد ساءت أحوالُه بعد وفاة أبيه، واشتغاله المُبكِّر في فلاحة أرضِه. غير أنّ أخاه الوحيد غير الشّقيق انتقل به إلى بغدادَ مُجدَّدًا سنة 1919، وأدخله المدرسةَ الجعفريّةَ الأهليّةَ الابتدائيّةَ الواقعةَ قُرْبَ سُوْقِ الغَزْلِ، وفيها ظهرَ مَيْلُه إلى دراسة العربيّة، بحيث لَفَتَ نَظَرَ الشّيخِ شُكر، المُشرِف على التّدريس العامّ في المدرسة تبرُّعًا، فرأى فيه قابليّةً مُدهشةً قياسًا إلى سِنِّه، كما يروي صديقُه الأديبُ الرّائد جعفر الخليليّ، فتولّى توجيهَه، وحَمَلَه على حِفْظِ بعضِ النُّصُوص الأدبيّة، وألوانٍ من الشِّعْر تصقل قابليّاتِه، فكان هذا عامِلًا في تنمية مداركه الفطريّة وتوسيع نوافذها. وخلال دراسته لاحِقًا في دار المُعلِّمين الابتدائيّة ببغدادَ (1921 - 1924)، أظهرَ تفوّقًا في اللُّغة العربيّة والإنشاء، ونَظَمَ أُولی مقطوعاته، وكان ينظِمُ لمُدرس العربيّة الإنشاءَ أحيانًا- كما قال في سيرته الذّاتيّة- فيُقدِّر له أحسنَ درجةٍ. كما لَفَتَ- بما كان يستظهِره من الشِّعر والرّواية والنُّصُوص الأدبيّة- نَظَرَ العالِم الأديب طه الرّاوي، وكان من أبرز أساتذة الدّار، فعُني به وشَجَّعه على الاستمرار، ومَكَّنه من الاطلاع على كُتُبٍ تزيدُ من قابلياته، فتألَّفتْ لديه من كُلِّ موارد ثقافته السّابقة، ذخيرةٌ حَبَّبَتْ إليه آدابَ اللُّغة أكثرَ ممّا مضى، فأخذ ينشر مقطوعاتٍ من الشّعر المدرسيّ في مجلّتين كان يُصدرهما أستاذان بالدّار، فضلًا عن مجلّة "التّلميذ العراقيّ".
قصيدة "عجائب مملكة العقل"
بتوقيع مُصطفى جَواد الدَّلْتاوي، نشرَ يوم 1 نيسان 1925، في عدد مجلّة (المُعلّمين) الرابع من السّنة الثّانية، قصيدتَه ذات الطّابع التّعليميّ: "عجائب مملكة العقل"، وتقعُ في 25 بيتًا، تناول فيها مُعجزةَ إدارة العقل لجسد الإنسان، وقال في مطلعها:
مملكةُ العَقْلِ أقوى كـــُـــــــــلِّ مملكة
قـــــد خصَّها اللهُ بالإبداعِ والعِظَمِ
إنّ الدّماغَ لـــها عـَـرْشٌ وإنّ لـــها
جَيـْــــــشًا وبَرْقًا وعِزًّا غيــرَ مُنهدِمِ
وبعد أن وصفَ إدارةَ العقلِ للصِّراعِ مع الأمراض، وعدَّها حربًا ضَرُوْسًا بين جُيوش الجراثيم الضّارة والنّافعة، ميدانها الجسد الإنسانيّ، ختمها بأربعة أبياتٍ عن ضرورات العناية بصحّة الجسد وسلامته، كيما يتحمّل أعباء الواجبات الموكلة له، والنّهوض بما يُصدره العقلُ من مُهمّات، وسنعود إلى هذه الأبيات في موضعٍ لاحقٍ، لنرى مدى التزامه شخصيًّا بها في أواخر حياته.
مقالتُه الأُولى: "التّلافيفُ المُخّيّةُ وأعمالُها"
في 1 أيار 1925، واستمرارًا لاهتمامه بقُدرات العقل الإنسانيّ غير المحدودة، نشرَ في العدد الخامس من المجلّة نفسها (ص276 - 278) وبتوقيعه أعلاه نفسِه، مقالتَه الأُولى "التّلافيفُ المُخّيّةُ وأعمالُها"، في مجالٍ علميٍّ بعيدٍ عن حُقُول اللُّغة والتّاريخ والأدب والتُّراث وعلم الخِطط التي برز فيها لاحقًا، وشرحَ فيها بأُسلوبه الخاصّ كيفيّةَ عمل التّلافيف والتّضاريس المُخيّة وأعصابها، ونظامَها العجيب في خزن المعلومات والإدراكات الحِسّيّة المُتنوّعة، ثمّ في استدعائها بإرادة الإنسان.
ولعلَّ ما كان يسمعه من إشادة أساتذته وزُملائه ومُحيطه العامّ، بقُوّة ذاكرته وقُدراته الاستثنائيّة على الحِفْظِ والاستظهارِ، دفعَه إلى مُحاولة دراسة المنشورات العلميّة المُتاحة عن العقل الإنسانيّ ومُكوّنات الدّماغ، ليتفهّمَ طبيعة قُدراته، وإمكانيّة إدامتها وتطويرها، وتوظيفها في تحقيق طُموحاته الأدبيّة وأمانيّه العلميّة البعيدة من جانبٍ، ولاستثمارها من جانبٍ آخرَ في مهنتِه الجديدة الّتي باشَرها منذ خريف 1924 مُعلِّمًا في المدرسة المركزيّة الأميريّة بمدينة النّاصريّة، فكانت به حاجةٌ ماسّةٌ إلى معرفة الطّريقة المُثلى لتعليمِ تلامذته، فتترسّخَ المعلوماتُ في عُقولهم بعد فهْمِها وإدراكِها، وقد خلصَ في ختامها إلى درْسٍ ذي أهمّيّةٍ بالغةٍ في حياته التّعليميّة، فحواهُ أنّ الحِفْظَ من غير فهْمٍ سُرعان ما يزول، ولهذا دعا في آخرِ جُمْلةٍ بالمقالة إلى التّفهيم لا الحِفْظ.
لقد كتبَ مقالتَه- الّتي تقع في 650 كلمة- بلُغةٍ سهلةٍ، مُتجنِّبًا استخدامَ ألفاظٍ مهجورةٍ كما فعل في بعض شعره المنشور قبلها، وأظهرَ قُدرةً واضحةً على الإقناع، وذلك لتنظيمه أفكارَه ومعلوماتِه فيها على نحوٍ سلسٍ، بعد أن قسّمَ المقالةَ على بضعةِ عناوينَ ثانويةٍ، مُبتدئًا باستهلالٍ عامٍّ، ليتنقّل بين أجزائها، مُفصِّلًا تلك الأفكارَ فيها ببراعةٍ ورشاقةٍ، وُصولًا إلى الخاتمة الّتي وضعَ فيها خُلاصةً تربويّةً مُكثّفةً كان يبتغيها.
وتُلاحَظُ فيها نزعتُه المُبكّرةُ لتجنُّبِ الألفاظ الأجنبيّة، واستخدامُه ألفاظًا عربيّةً محلّها، وإن كانت الأخيرةُ غيرَ ذائعةٍ، كالمُستكِفّ (الفوتوغراف) وحاكي الأصوات (الفونوغراف) والرَّقّ والأُسطوانات الصّوتيّة.
ولأهمّيّة هذه المقالة الرّائدة وشبه المجهولة الّتي افتتحَ بها مسيرته المعرفيّة، أُدرجُها في
أدناه كاملةً، أُنموذجًا على صياغته النّثريّة المُبكِّرة، وأظنّه لو كان واصلَ اهتمامَه هذا وتخصَّصَ فيه، لنافسَ صديقَه العالِمَ المصريَّ الدّكتور أحمد زكي في ريادته كتابةَ المقالةِ العلميّةِ بأُسلوبٍ أدبيٍّ.
"التّلافيفُ المُخّيّةُ وأعمالُها"
"يرى الإنسانُ أنّه إذا حفظَ شيئًا من المعلومات والحوادث، وأتقنه اتقانًا حسنًا من دُون أن يتداخله شكٌّ أو ضعْفٌ، وأراد بعد حينٍ أن يستعيد تلك المعلوماتِ والحوادثَ، تمكَّنَ من إعادتها بكُلٍّ سُهولةٍ، مع تبصُّرٍ قليلٍ وتفكُّرٍ قصيرٍ، فكأنّه قد جعلها وديعةً عند مُخلصٍ أمينٍ، ثمّ استلم منه تلك الوديعةَ سالِمةً من كُلّ خللٍ، وإنّ التفكُّرَ القصيرَ ما هو إلّا بيانُ الرّغبة في إعادةِ الأمانةِ بإشاراتٍ خرساءَ وطلبٍ خفيٍّ.
ولو بحثنا عن المُخلص الأمين الّذي يُؤدّي الأماناتِ إلى أهلِها سالمةً، إنْ أُودعتْ عنده إيداعًا حقيقيًّا، لَما وجدناهُ إلّا التّضاريسَ المُخِّيّةَ الموجودةَ في مُخّ الإنسان، الّذي امتازَ البشرَ عن باقي الحيوانات بتضاريسه الكثيرة، ولو كان بعضُ الحيواناتِ يملكُ القليلَ من هذه التّضاريس في مُخِّه.
وتتجلّى في هذه التّلافيفِ عظمةُ الخالقِ عزَّ وجلَّ، الّذي منحها قًوّةً تتمكّن بها من المُحافظة على ما تنقلُه إليها الحواسُّ من معلوماتٍ وصُوَرِ أشباحٍ وحوادثَ وغيرِها، وأعطاها قُوّةً على تسليم ما احتفظتْ به إلى صاحبه.
وإنّ هذه التّضاريسَ غيرُ قادرةٍ على العمل ما لم تُوعِزْ إليها الإرادةُ ويساعدُها الإحساسُ، والإرادةُ هي: قُوّةٌ نفسيّةٌ تعملُ ما يُحبُّه الإنسانُ خيرًا كان أو شرًّا، والإحساسُ: هو الأثرُ الحاصلُ ممّا يطرأ على الأعصاب الواردة فيُثيرها.
كيفيّةُ عملِها: إنّ الأعصابَ الواردةَ تنقلُ الإحساسُ من أَلَمٍ وطَعْمٍ ورائحةٍ ومَشْهدٍ وصَوْتٍ وغيرِها، فتُحيلُه على التّلافيف المُخِّيّة لتُميِّزه تمييزًا حقيقيًّا، فإذا ميَّزته أصبحَ إدراكًا حِسِّيًّا، وحينئذٍ تطبعُه أو تُرسِّخُه على قسْمٍ منها مُعَدٍّ لهذا النّوع من الإدراك الحِسِّيِّ، وتبقى مُنتظِرةً صُدُورَ الإرادةِ في قَبول ما يتبعه لنفسه أو درئًا لضرره. ومن هذا يتضّحُ لنا أنّ كُلّ زُمْرةٍ من هذه التّلافيف لها عملٌ خاصٌّ
بها، لا تشتغلُ بغيره لئلّا يتبعثرُ النّظامُ فيسودُ الفسادُ.
إنّ الإدراكَ الحِسِّيَّ ينطبعُ على التّلافيفِ بصُورةٍ لم يعرفْ حقيقتَها العُلماءُ، فانطباعُها أشبهُ شيءٍ بانطباعِ الأشباحِ على رَقِّ المُستكِفِّ (الفوتوغراف) ولذلك يكونُ ثابتًا، ليبقى دليلًا ومقياسًا للإنسان لمعرفة نوعه الّذي يحسُّ به الإنسانُ فيما بعدُ، والبُرهانُ على ذلك أنّنا الآنَ نعرفُ أنواعًا من الطُّعُوم والرّوائح، وكثيرًا من المشاهد والأصوات والمعلومات، بحسبِ درجاتِها ومنافعِها ومضارِّها، فإنّك إذا كانَ عندك رَقٌّ مُستكِفٌّ مطبوعٌ عليه شَبَحٌ من الأشباح، تقدرُ على أن تطبعَ منه أشباحًا كثيرةً مثلَه وهو باقٍ على حالته، فكذلك الإدراكُ الحِسِّيُّ، تتمكّنُ من إعادته عند اضطرار الحاجة إيّاك، سواءٌ كان الدّاعي إعادة التّذكُّرِ أو المُقارنة أو المخالفة، مع أنّ أثرَه مُحافِظٌ على كيانه في التّلافيف، وهذا هو السّببُ الّذي حَدا العلماءَ إلى قولِهم: العلمُ كنزٌ لا يَفنى. ولنضربْ لكَ مثلًا مُحَسًّا آخرَ: إنّ الاسطوانات المطبوع عليها التّموجات الصّوتيّة تُعيدُ لك الأصواتَ نفسَها متى شئتَ وأنّى أحببتَ.
وحينئذٍ لا غرابة في قولنا: إنّ كلَّ إدراكٍ حَسِّيٍّ ينطبعُ على التّلافيفِ المُخِّيّةِ انطباعًا حِسِّيًّا كانطباع الأشباحِ على الرَّقّ الحَسّاس أو انطباع التّموّجات الصّوتيّة على اسطوانات حاكي الأصوات، وإنّك قادرٌ على إعادته في أيّ حين.
كيفيّةُ إعادةِ الإدراك الحِسِّيِّ: إنّ الدّواعي لإعادة الإدراك الحِسِّيّ ثلاثةٌ: 1- التّذكرة 2- المُقارنة 3- المُخالفة.
فلو قرأ الإنسانُ جُملةً وفهمَ معناها فهْمًا تامًّا، لدخلتْ في دائرة الإدراك الحِسِّيِّ ورسخَ أثرُها في التّضاريس، ومن ثمّ إذا صدرتْ إرادةُ الإنسان بتذكُّرِها للتّأكُّدِ من رُسوخها وثباتها، فإنّه يُعيدها إلى منطقة التّلافيف المُميِّزة، فالدّاعي هنا (التّذكُّر).
وإذا ذاقَ الإنسانُ طَعْمًا ما فإنّه يتمكَّنُ من إعادة الإدراك الحِسِّيِّ بالطُّعوم ليُقارنه مع هذا الطَّعْم بالمُشابهة، ثُمّ يُضيفه إلى نوعِه ليُصبح إدراكًا حِسِّيًّا بعد ما كان إحساسيًّا، فالدّاعي لإعادة هذا المثال هو المُقارنة.
وإذا سَمِعَ الإنسانُ صَوْتًا غريبًا لم يألفْه، فهو قادرٌ على إعادة الإدراك الحِسِّيّ الخاصِّ بالأصوات ليُقارنه مع هذا الصَّوْت الجديد، فيتّضحُ له أنّه مُخالِفٌ لجميع أنواعه، ونجدُ الدّاعي هنا هو (المُخالفة). وإنّ المثلَ القائل: وبضدِّها تتميّزُ الأَشياءُ، مبنيٌّ على هذا الدّاعي الأخير.
لماذا يجبُ الاهتمامُ بتفهيم المعلوماتِ لا استظهارها؟: إنّ المعلوماتِ الّتي يتلقّاها الإنسانُ من دُون معرفة مبناها ومعناها، تبقى محصورةً في دائرة التّلافيف المُميِّزة للإحساسِ زمنًا غيرَ يسيرٍ؛ لعدم وُضوحها وغُمُوض حقيقتها، فإذا فهمَ الإنسانُ معناها أخيرًا، دخلتْ في منطقة الإدراك الحِسِّيِّ، وإلّا نبذتْها التّلافيفُ المُميِّزةُ وأصبحتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا، اللّهُمَّ إلّا إذا كرَّرها اللّسانُ لحفظِها من النّسيان الّذي يُفاجئها سجالًا.
ولهذا نرى أنّ المعلوماتِ المُقتبسةَ استظهارًا من دُون فهْمِ معناها، قابلةٌ للزّوال لعدم دُخولها دائرة الإدراك الحِسِّيِّ. إذًا المُسبِّبُ لحصْرِها أو إدخالها إلى تلك الدّائرة فهمُ معناها. فعلينا أن نهتمَّ بتفهيمها لا استظهارها".
تصحيح خطأ جسيم
ومن الضروريّ هنا تصحيحُ خطأٍ جسيمٍ له صلة بهذه المقالة، وقعَ في كتاب "الجُهود العلميّة للعلّامةِ الدُّكتور مُصطفى جَواد- كشّاف تفصيليّ لآثارِه المطبوعةِ والمخطوطةِ"، للباحث عبد الزّهرة هامل غيّاض، الصّادر سنة 2011 عن بيت الحكمة، إذ ليسَ صحيحًا أبدًا ما وردَ فيه (ص39) من أنّ أوّلَ مقالةٍ منشورةٍ لمُصطفى جَواد كانتْ بعُنوانِ "المدرسة المُجاهديّة مُنذُ سنةِ 637هـ"، المُفترض نشرُها في مجلّةِ (الصّراط المُستقيم) سنةَ 1922؛ فقد ثبتَ عندي بالدّلائلِ القاطعةِ أنّ العددَ الأوّلَ من هذه المجلّةِ إنّما صدرَ سنة 1931، وتحديدًا يوم الثّلاثاء 20 صفر 1350هـ(= 7 تموّز 1931)، وأنّ مُصطفى جواد بدأَ النّشرَ فيها مُنذُ سنةِ 1932. وكنتُ قد انتقدتُ طبعةَ هذا الكتابِ في مقالتي "مثالانِ في إصدارِ كُتُبٍ مرجعيّةٍ بلا تدقيقٍ"، المنشورة بجريدة (الصّباح الجديد) يوم 29/ 7/ 2020.
عودة إلى الأبيات الأربعة
وبالعودة إلى ختام قصيدته "عجائب مملكة العقل"، الّتي ختمها بأربعة أبياتٍ قال فيها ناصِحًا:
فدارِ جسمَكَ من ضَيْرٍ ألمَّ بهِ
كيـــلا تبوءَ بُعَيــدَ الحَرْبِ بالنَّدَمِ
وحافظِ الجسمَ مـــــن ضَعْفٍ ومــــن كَدَرٍ
وكُنْ نشيــــطًا حميـــــــــــدَ الفِعْلِ والشِّيَمِ
واعْلَمْ بأنّـََ دَوْمًا للرَّدى هَدَفٌ
وليـــسَ منه بلا جدٍّ بمُعْتَصِمِ
فصحّةُ الجِسْمِ أعلى كـُلِّ منزلةٍ
وقـد أريتُكَ فَجَّ الخيرِ فاقتحِمِ
نكتشف أنّ مُصطفى جَواد الكَهْلَ المُقبِلَ على الشّيخوخة، والمُصابَ في أعوامه الأربعة الأخيرة بجلطةٍ قلبيّةٍ، لم يُطبِّقْ نصائحَه يومَ كان شابًّا، ولم يقتحمْ "فَجَّ الخيرِ" هذا الّذي أراهُ لغيره، بل أرهقَ جسدَه المُنهكَ في مُواصلة أبحاثه حتّى وهو على سرير المرض، فأصبح "هَدَفًا للرّدى"، كما أفادَ بعضُ أصدقائه المُقرّبين الّذين حرصوا على عيادته، فوجدوه عاكِفًا على إنجازِ مشاريعَ تأليفٍ وترجمةٍ وتحقيقٍ ونقْدٍ لأعمال غيره. وقد ضَمَّنَ هو نفسُه بعضَ مقالاتِه المنشورةِ في عاميه الأخيرين، عباراتٍ صرَّحَ فيها أكثر من مرّةٍ بأنّه حريصٌ على أن ينشرَ- قبل رحيله- ما أمكنه من أبحاثٍ يراها مُهمّةً، أفنى في الكشف عنها سِنيَّ عُمره، كي يفيد منها الباحثون ولا تضيع بعده.
وكأنّ أبا الطّيّب المُتنبّي إنّما عناهُ، هو لا غيره، حين قال:
إذا كانتِ النُّفُوسُ كِبارًا
تَعِبَتْ في مُرادِها الأجسامُ