أمجد نجم الزيدي
تعد المقولات الشائعة التي تتغلغل في الخطابات الثقافيّة والمعرفيّة جزءاً أساسياً من تشكيل بنية التفكير الجمعي والفردي، خاصة في الأوساط الفكريّة والثقافية، مع أن العديد من هذه المقولات قد نشأت إما نتيجة سوء فهم للسياق الأصلي الذي وردت فيه أو تم انتزاعها من سياقاتها الأصلية وإعادة توظيفها في إطار جديد يخدم أغراضاً مختلفة ربما بعيدة عن مقاصدها، هذا التحوير في المعنى والسياق يثير إشكاليات معرفيّة عميقة، حيث يبنى على تلك المقولات خطابات ورؤى ينظر إليها بوصفها راسخة وغير قابلة للنقاش.
فهذه المقولات المنتزعة، تُسهم في ترسيخ تصورات محددة تُصبح مع مرور الوقت جزءاً من الوعي الجمعي، ولا يقتصر تأثيرها على الخطاب الثقافي فحسب، بل يمتد إلى مجالات الفكر والسياسة والأيديولوجيا، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن المقولات المستندة إلى نصوص أو أفكار تاريخيّة غالباً ما يتم إعادة تأويلها لتتلاءم مع احتياجات زمنيّة أو ثقافيّة مختلفة، ولكن هذه العملية، التي قد تبدو طبيعيّة في سياق تطور الفكر، قد تُفضي إلى سوء فهم خطير عندما يتم انتزاعها من جذورها وتحويرها بما يغيّر من جوهرها، فعلى سبيل المثال، نجد مقولات مثل "المترجمون خونة" أو "الفن للفن" أو "التاريخ يكتبه المنتصرون" أو غيرها، قد أصبحت شعارات مركزية في مناقشات الأدب والترجمة والفن والتاريخ، كمقولات راسخة ليست مجرد عبارات معزولة، بل أدوات لتشكيل بنى فكريّة وخطابات تُهيمن على المشهد الثقافي، رغم أن معانيها الأصلية أو السياقات التي وردت فيها كانت تحمل دلالات مختلفة تماماً.
تثير عبارة "المترجمون خونة"، بوصفها إحدى المقولات الأكثر شيوعاً وانتشاراً، والتي قد جرى تداولها كحقيقة مطلقة، إلى تساؤلات حول طبيعة الخيانة في السياق الترجمي، وما إذا كانت تحمل أبعاداً أخلاقيّة أم أنها تعكس تعقيد العلاقة بين النصوص الأصلية والمترجمة.
إنَّ كلمة "خائن" في اللغة الإيطالية، كما أوضح الدكتور عبد الواحد محمد في كتابه "نظرات في الترجمة"، مشتقة من جذر لاتيني لا يعني الخيانة بمعناها الأخلاقي المباشر، بل يشير إلى مفهوم "إفشاء السر" أو "الكشف عن مضمون"، وهذا البحث في جذر الكلمة واشتقاقها، لمحاولة فهم هذه المقولة، هو محاولة لتفكيك تلك المقولات التي فهمت بصورة خاطئة، وذلك بسبب فهم دلالة الكلمة بصورة سطحية من قبل المترجم، والذي أدى إلى إساءة استخدامها ونقلها إلى سياقات جديدة قد تتنافى مع المعنى الأصلي.
فوصف المترجم بالخائن ينطوي على مفارقة أساسية، فالمترجم يقوم بـ "إفشاء" محتوى النص الأصلي من خلال تحويله إلى لغة وثقافة أخرى، غير أنّ هذا الإفشاء ليس بالضرورة خيانة، بل قد يكون فعلاً إبداعياً يتطلب فهم النص الأصلي وخلق نص جديد يتناسب مع سياق اللغة المستهدفة، لذلك فإنّ من الضرورة التمييز بين الخيانة الأخلاقيّة، التي تنطوي على سوء نية، والخيانة المفاهيميّة، التي تحدث بسبب اختلاف الأنظمة اللغوية والثقافية بين النصوص، فليست الترجمة مجرد نقل ميكانيكي للكلمات، بل عملية تأويلية تعيد إنتاج النص في إطار ثقافي مختلف، مما يجعل من المستحيل تحقيق تطابق كامل مع النص الأصلي، وأعتقد أنَّ بإمكاننا النظر إلى هذه "الخيانة" المفترضة، بوصفها تفسيراً للنص الأصلي بدلاً من تشويهه أو خيانته، فالمترجم -على أقل تقدير- ليس مجرد وسيط لغوي، بل هو مؤلف ثانوي يعيد خلق النص وفقاً لفهمه الخاص ووفقاً لمتطلبات القارئ في الثقافة المستهدفة، وهذا الفهم لعملية الترجمة يرتبط بالنظريات الحديثة، مثل نظرية المناطق البينية أو المنطقة الثالثة (Third Space) لـ هومي بابا، حيث تبنى على أنَّ التقاء الثقافات والهويات يُنتج فضاءً جديداً يحمل خصائص مزدوجة أو متعددة، والتي ترى الترجمة كعملية إنشاء لفضاء جديد من التفاعل بين الثقافات، لذا فإنّ المترجم، بدلاً من أن يكون خائناً، يصبح وسيطاً ثقافياً يسهم في تعزيز الفهم والتواصل بين الشعوب.
ترتبط ربما هذه المقولة "المترجمون خونة" بتيارات فكرية ترى في النص الأصلي قداسة لا يمكن المساس بها، والذي يعكس نزعة نحو التمركز حول الأصل على حساب النسخ، أو الإبداعات المشتقة منه، إذ إنَّ وصف المترجم بالخائن هو جزء من خطاب سلبي يكرّس الهيمنة الثقافيّة للنصوص الأصلية ويقلل من قيمة الجهد التأويلي والإبداعي للمترجمين.
لذا يُصبح التدقيق في أصول المقولات ومراجعتها ضرورة معرفية، ليس فقط لفهم السياق الأصلي الذي نشأت فيه، بل أيضاً للكشف عن الآليات التي يتم من خلالها إعادة توظيفها، هذه العملية تتيح لنا تفكيك الخطابات التي تستند إلى هذه المقولات وإعادة بناء رؤى نقديّة أكثر اتساقاً مع الواقع، فاستمرارية الخطابات التي تعتمد على مقولات مشوّهة أو منتزعة من سياقها تُلقي بظلالها على تطور الفكر، لهذا، يُعدُّ التفكيك لهذه المقولات جزءاً من مسؤولية المثقف.
إنَّ المقولات الشائعة التي نعتبرها أحياناً مسلّمات فكرية ليست سوى نتاج عمليات معقدة من التأويل وإعادة التوظيف، تتأثر بالسياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ومن خلال العودة إلى أصول هذه المقولات وفهم كيفية تشويهها، يمكننا ليس فقط تصحيح المفاهيم الخاطئة، بل أيضاً إعادة توجيه الخطابات الثقافية نحو فهم أعمق وأكثر دقة للظواهر الفكرية والاجتماعية، بهذا، يصبح النقد لهذه الظواهر أداة للتحرر الفكري، وليس مجرد وسيلة لتفكيك الخطابات القائمة.