أنسام الساعدي
لا يتوقف النصُّ الشعري على أي تقييم، مهما كان مستواه وقيمته الشعرية، ومهما كانت استطاعة الشاعر في استخدام المجاز أو الاستعارة او الانزياح الرمزي في قصيدته الشعرية، إن مهمة قصيدة النثر بثُّ الأفكار شعرياً بعيداً عن القافية والوزن والروي، ضمن أدوات تنتمي إلى الأدب وراسخة شعرياً فيها، أمَّا ارتقاء الشاعر وتصنيفه للمراتب الأولى فهذا ما يترك للمتلقي الذي يقرأ ضمن تأويله هو فسيكون نصّاً آخر غير النصِّ الذي كتبه الشاعر ولكلِّ منهم أسلوبه الخاص في طرح أفكاره الشعرية وصناعة الصورة الفنية داخل النص، هذا ما نسلط الضوء عليه في المجموعة الشعرية التي تحمل عنوان "تاريخ الجنود المجهولين" لعبدالحسين بريسم، والذي صدر عن دار الصواف في سوريا.
المجموعة تتكون من 21 قصيدة نثريّة، يقول بريسم في "سوف تنتهي الحرب": (مستهلها بجملة سوف تنتهي الحرب ويعلن النصر على الأعداء ويرفع العلم / يعود الجنود إلى أمهاتهم ومدنهم أجساداً بلا روح/ فقط الشهداء يبقون هناك يحرسون الحرب/ سوف تنتهي الحرب / يحكي الجنود لأحفادهم قصص المعارك،/ يكون الأحفاد على سواتر الحرب من جديد/ النساء في مقابر الجنود ترتدي قمصانهم./ يتركون عراة في صورهم المعلقة على القبور./ صورهم على أعمدة الكهرباء أكلتها الشمس، انطفأ بريقها).
لقد انتهت الحرب فعلى الشاعر أن يرصد مأساتها ودمارها على الطبيعة والإنسان معا، ويرسم بكلماته ومخيلته لوحته الخاصة والمرمزة شعرياً وما تحمل الحرب من دمار شامل لهذه الطبيعة والإنسان مخلّفة الثكالى والأيتام.
بينما نقرأ في قصيدة أخرى بعنوان "اِنزله نصراً يرتّل آيات الحمام": (أرقص زهواً على سماء نصر صنع من دمك/ اِنزله فجراً يُزيح عن ليلك سوادهم/ أعلن الآن فجرك/ أراك تزف حمام سلام،/ أيّها الراقد في الدم تحلم/ بينابيع حمام/ أُريد وطناً يحمي العصافير والأشجار والبشر).
كل البشريّة تحلم بأن تكون في أوطانها سعيدة آمنة تعيش مع إخوانها من البشر بسلام ومحبة، في وطن خالٍ من الحروب والدم، فصورة ينابيع حمام صورة مكتملة لإنزياح شعري يقصد به السلام. وهذه معايير أدبيّة من صميم الواقع العراقي المعيش، لأن قيمة العمل الشعري هي في رصد الواقع وليس في مثل خالية عن الواقع وبعيدة عنه.
أما في قصيدة "تاريخ الجنود المجهولين" يقول الشاعر: (بوصلة الحرب تشير شمالاً/ تأخذ الجنود حطباً لدفء الجبال).
وهنا يقصد الشاعر حرب الشمال في سبعينات القرن الماضي، وما قام به النظام الدكتاتوري من حروب عبثيَّة لا طائل من ورائها غير قتل الشعب بعضهم بعضا. حيث يردفها شعرياً بقوله: (تعزف موسيقى عسكرية/ أناشيدها جماجم./ ما زالت أغاني الجنود حنيناً عاطلاً،/ صدىً لصوت مضى./ أنا جندي عربي بندقيتي في فمي). وهنا يقصد الشاعر الحروب العربيّة التي خسرتها العرب مع إسرائيل.
ثم بعد ذلك تأخذنا بوصلة الحرب إلى الشرق حيث الحرب الإيرانية العراقية. إذ يقول: (سنوات تنزف رجالاً وملحاً/ جنود البوابة الشرقية، ماتوا تحت شبَّاكها/ وما لوّح لهم أحد/ ونصبهم المجهول سرقه حصان رجل مهزوم). ثم تأخذنا البوصلة إلى حرب الخليج حيث يقول الشاعر: (عرجت الحرب نحو الجنوب، تقطع رؤوس النخيل، لينمو رصاص الجنود،/ زرعوا قمصانهم العسكرية، على الطرقات/ فما نما إلّا العويل على خارطة الوطن،/ وأرامل أدمنت السواد والمقابر./ أهذا وطن أم جثّة تنزف من جميع الجهات؟). هكذا يقدم الشاعر علاقة النص بالمجتمع والحياة رافضا هذا التأريخ المليء بالحروب والدم.