الأسواق العشوائيَّة.. أرزاقٌ على الأرصفة ومعالم غارقة في الفوضى

ريبورتاج 2024/12/19
...

 بغداد: سرور العلي
 تصوير: أحمد جبارة

 بينما تواصل أمانة بغداد محاولاتها لإزالة التجاوزات في الشوارع والأسواق الشعبية، هناك من يرى أن البسطات والأكشاك، رغم ما تسببه من فوضى، تعد جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للكثير من المواطنين. فبالنسبة للكثير من أصحاب هذه البسطات، تمثل هذه التجاوزات المصدر الوحيد للرزق في ظل قلة فرص العمل. وفي المقابل، يعتقد آخرون أن الحلول المقدمة حتى الآن لا تكفي، وأن إيجاد طرق لتنظيم هذه البسطات قد يكون أكثر فاعلية من القضاء التام عليها، خاصة أنها توفر فرص عمل للكثير من الأسر.
سوق مريدي، الواقع في شرقي بغداد، هو واحد من الأسواق الشهيرة التي تعكس مشهداً مزدحماً، يتناثر فيه الباعة الجوالون والبسطات بشكل عشوائي على جانبي الأرصفة والشارع الرئيس، ما يخلق حالة من الفوضى رغم الحركة التجارية الواسعة التي يشهدها. هذا السوق، الذي يخدم أهالي المناطق المجاورة، ويعد نقطة تجارية حيوية، ولكن العشوائية التي تسود فيه تثير العديد من التساؤلات حول ضرورة تنظيمه بشكل يتناسب مع احتياجات المواطنين ويحافظ في الوقت نفسه على النظام والذوق العام.
يدافع أحمد تحسين (32 عامًا)، صاحب بسطة لبيع السمك، عن هذه الظاهرة قائلاً: "هذه البسطات هي مصدر رزقنا الوحيد، ولا نملك حلولًا أخرى". في المقابل، يرى الحاج سعد حسين، أحد المتبضعين، أن هذه الظاهرة غير حضارية وتؤديإلى تشويه معالم المدينة التي بدأت تشهد مرحلة من النهوض بعد سنوات من الإهمال. ويضيف أن هذه التجاوزات تؤثر سلبًا في البنى التحتية وتسهم في تدهورها بسبب سوء الاستخدام من قبل أصحاب البسطات.
من جانبه، يقول حسن كريم (29 عامًا)، صاحب كشك لبيع المواد الغذائية في سوق مريدي: "كل إزالة لبسطة أو سقيفة تعني قطع رزق أسرة لا يوجد لها معيل آخر". ويضيف: "نحن بحاجة إلى استثمار أسواق نموذجية في هذه المناطق الشعبية، لكي يتم تنظيم العمل والحد من معاناتنا".
ولفتت فاتن محمد (33 عاماً)، من السكان المحليين في مدينة الصدر إلى أنها لا تفضل الذهاب لتلك البسطات، كونها غير منظمة، وتسودها الفوضى.
من جانبه، أشار مرتضى يوسف (40 عامًا)، صاحب بسطة لبيع الثياب المستعملة "البالة"،  إلى أنه "لو توفرت فرص عمل أخرى وفتحت أبواب التوظيف، لما اضطررت أنا والكثيرون غيري للجلوس على الأرصفة والبحث عن مصدر رزق لنا".
طرح سيف كامل، أحد السكان المحليين في مدينة الصدر، تساؤلات عدة، منها: "لماذا لا تقوم أمانة بغداد بإزالة التجاوزات في بعض الأسواق الشعبية، وإنشاء أسواق نموذجية بدلاً منها؟ يمكن استئجار هذه الأسواق لتكون مصدر دخل للأمانة، وفي الوقت ذاته تكون حضارية ومنظمة، دون تجاوزات، وتراعي في الوقت  نفسه مصدر رزق المواطنين".
ولا يقتصر الأمر على سوق مريدي فقط، بل يمتد إلى مناطق أخرى، حيث قام البعض بإغلاق الشوارع وتحويلها إلى أسواق شعبية، محاطة بكتل خرسانية، مع إقامة محال وأكشاك داخلها يتم استئجارها وبيعها بمبالغ ضخمة تصل لآلاف الدولارات. ومع ذلك، عملت أمانة بغداد على إزالة هذه التجاوزات وفتح الشوارع أمام المارة، كما حدث في سوق الأربعة آلاف، والسوق الشعبي في مدينة الشعب، وأسواق مدينة الصدر مثل سوق الحي وسوق الأولى وعريبة. إلا أن هناك أسواقًا أخرى ما زالت من دون معالجة، مثل سوق بغداد الجديدة لبيع الثياب وسوق شلال شرقي بغداد.
في ظل ضعف تطبيق القانون وانعدام الحملات الرقابية المستمرة، هناك من يبرر هذه التجاوزات التي تؤثر في حركة الآخرين، والجوانب الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، يرى د. ستار البياتي، أستاذ الاقتصاد في كلية اقتصاديات الأعمال في جامعة النهرين، أن هذه البسطات والأكشاك تُعد جزءًا من "الاقتصاد غير الرسمي"، حيث أن أصحابها غير مشمولين بدفع الضرائب إلى الدولة.
وبين في حديثه لـ"الصباح": أنه "رغم ذلك فإن تلك البسطات تمثل نافذة مهمة لتوفير فرص العمل للكثير من العاطلين، ومنهم أصحاب شهادات من خريجي الجامعات والمعاهد التعليمية".
وأشار البياتي إلى أنه "في السنوات السابقة كانت الحكومات تغض النظر عن هذه التجاوزات، باعتبارها بديلاً ملائمًا للعمل. وقد ساعد ذلك في تقليل الضغط على الدولة، في ما يتعلق بمشكلة البطالة، حيث تمتص هذه البسطات جزءًا كبيرًا من العاطلين عن العمل، وكأنها تحظى بدعم واهتمام، رغم أنها جزء من الاقتصاد غير الرسمي، مضيفاً بالقول "هذا الوضع يساعد الدولة أيضاً في التخفيف من المطالبات المستمرة بالتوظيف".
وأضاف البياتي: "في السابق، تم اتخاذ خطوات مشابهة في بعض المناطق، مثل الباب المعظم، حيث تم جمع أصحاب أكشاك الخضراوات والفواكه المتواجدين على الأرصفة في مركز حيوي ومهم، وتم نقلهم إلى سوق مُنظّم بجانب كراج النقل العام هناك، ثم تم تخصيص مكان مناسب لكل شخص لعرض بضاعته بشكل منتظم ومن دون فوضى، ضمن مساحة معينة. كما تم تطبيق الفكرة نفسها بالقرب من سوق الثلاثاء سابقًا".
واقترح البياتي أن يستمر العمل بهذا النظام، طالما أنه يوفر فرص عمل وفي الوقت نفسه يحافظ على عدم التجاوز على الممتلكات العامة. وأكد أن مشاهد الفوضى التي تخلفها البسطات تشوّه التخطيط العمراني للمدينة، مشدداً على ضرورة أن تسعى أمانة بغداد لتنظيم هذه الأسواق في أماكن محددة، "وبذلك يمكن توفير مصدر رزق للكسبة والعاطلين عن العمل دون ملاحقات قانونية، وفي الوقت نفسه معالجة مشكلة البطالة، مع ضمان أن يكون أصحاب هذه البسطات تحت مراقبة الدولة بعيدًا عن خرق القانون".

تشويه معالم المدينة
تعد العشوائيات وتشويه معالم المدينة موضوعًا بالغ الأهمية، كما يصفه المهندس محمد الربيعي، المتحدث باسم أمانة بغداد. وقال في تصريح لـ"الصباح" أن تلك التجاوزات تؤدي إلى تشويه المنظر العام للمدينة، مشيرًا  إلى أن دائرة التصاميم مسؤولة عن مراقبة هذه التجاوزات ووضع المعايير اللازمة لإزالتها من خلال لجنة الذوق العام. وأوضح أن البلديات في العاصمة تعمل على إزالة هذه التجاوزات من خلال حملات مكثفة تنظمها بين فترة وأخرى، وكان آخرها حملة "14 × 4"، التي شاركت فيها 14 بلدية على مدار أربعة أيام، حيث تم رفع التجاوزات من الأرصفة في الأسواق الشعبية والشوارع وتنظيمها. ورغم هذه الجهود، فإن المشكلة ما زالت مستمرة؛ نظرًا
لطول الفترة التي امتدت فيها العشوائيات، سواء من قبل أصحاب المحال التجارية أو المباني وأصحاب الدور.
وأضاف الربيعي: أن "العمل مستمر من قبل أمانة بغداد، لإزالة هذا التشوه البصري، وهناك فوضى أخرى وهي التجاوز على واجهات المباني، ونحن نقوم بفرض الغرامات واتخاذ الإجراءات القانونية لمعاقبة المخالفين وفقاً لقانون التجاوزات (16)".
وأكد الربيعي استمرار عملهم، لتنظيم الأسواق الشعبية وجعلها نموذجية، وإزالة أي تجاوز على الأملاك العامة، وتنظيف المعالم وإعادة تأهيلها وترميمها، لا سيما بعد اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.  
بدوره، يقول عادل كاظم الساعدي، معاون المدير العام لبلدية الغدير في حديثه لـ"الصباح": "هنالك إنذارات مسبقة، إذ يتم تبليغ المتجاوز أو المخالف بإنذار رسمي، وهناك شروط وضوابط، ومن ضمنها إنذاره برفع تجاوزه أو مخالفته، ثم العمل بالإجراءات القانونية كافة، وسوف تتم إزالة التجاوزات بالقوة إن لم يستجب صاحب المخالفة، وهناك غرامات رادعة بحق المتجاوزين بحسب قرار (296)، كلفة الأضرار، وهذه القوانين موجودة وتطبق في أمانة بغداد، وتعمل بها جميع الدوائر البلدية ودائرة العقارات أيضاً".
ويؤكد المهتمون والمتابعون ضرورة إيجاد حلول دائمة لظاهرة التجاوزات، وتطبيق القوانين بشكل صارم بحق المخالفين، وفي الوقت نفسه توفير أسواق نموذجية ومنظمة، لا سيما في المناطق الشعبية، للحد من الفوضى والتشوه العمراني.