كاظم غيلان
تشكل اللافتة علامة بارزة في ذاكرة الأجيال التي شهدت انقلابات وثورات وخصومات سياسية، قطعة القماش المحمولة في مقدمة التظاهرة تعلن عن هوية من يمشون خلفها، ترتفع بهتافاتهم الساخطة وتتشكل على هيئة عدو للسلطة التي تنقض على أصحابها بوصفهم معارضين. مشهد التظاهرة جسدته في قصيدة نشرتها لي"طريق الشعب" إبان صدورها العلني عند سبعينيات القرن الماضي، بعنوان "تفاصيل تظاهرة تموزية" وأنا أجسد ما بقي عالقاً بذاكرتي عند صبيحة 14 تموز:
"انته أنهار وتروي الحنطه
ومن ركضت لافتتك بينه
حركت كل كلوب الشرطه "
ظل هذا البيت يقدح في ذاكرتي كلما قرأت:"الشرطة في خدمة الشعب" حيث ينقلب بالضد من معناه كلما تذكرت مشهد الهراوات وهي تفتك بحملة اللافتات ومن خلفها. من أبرز مفردات تلك اللافتات "يسقط " و"يعيش"، وعلى ذكر الأولى "يسقط " أسمعني صديق لي طرفة مفادها أن تظاهرة كانت تخترق شارع الرشيد منددة بوعد بلفور"فليسقط وعد بلفور" التحق بها رجل إعرابي دون أن يعرف شيئاً عن المناسبة ولما رصدت عيناه أعداد المتفرجين وهم يشغلون أعالي بنايات الشارع تصور أن الهتاف ضدهم وراح يهتف : "فليسقط واحد من فوك". ما إن تذكر كلمة "لافتات" اليوم حتى يقفز اسم الشاعر "احمد مطر" الذي حملت أعماله الشعرية اللافتات عنواناً لها، وهي حقاً هكذا، فقصيدة مطر امتازت بمباشرتها الساخطة والساخرة والقريبة إلى حد ما من أعمال رسام الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي. وقصيدة أحمد مطر لافتة حقيقية ترفعها ملايين غاضبة وتحفظها عن ظهر قلب؛ لأنها تنتمي للجوهري في مشاعرها. أتقن أحمد مطر استخدام لغته وراح يبرع في صياغاتها بفنية عالية كوسيلة مؤدية إلى المعنى.
في الأيام الأولى لاحتلال العراق وسقوط نظام صدام توافد الأصدقاء من المثقفين الذين أقاموا في منافي الشتات، وكان ليل بغداد لا يطاق في تلك الأيام، فوضى عارمة وعتمة قاهرة، فاتفق معي صديقي القادم من استراليا الشاعر غيلان حوشي على إعداد تظاهرة تطالب بـ "استعادة ليل بغداد المسروق" وبدأنا نرسم ونخطط ونجمع تواقيع تجاوزت
الـ (100) توقيع.
اقترحت على غيلان الذي لا يرد لي طلباً أن نتخلى عن الشعارات السياسية الرنانة، ونختار جملة زامل سعيد فتاح التي لحنها طالب القره غولي كشعار لتظاهرتنا :
" ياليل صدك ما اطخلك راس "
تجمعنا عند نصب الحرية ولم نكن سوى (10) متظاهرين وهكذا "سقط" تسعون ناكث عهد وقعوا معنا من "المثقفين".
اخترقنا "أبو نؤاس" فالتحق بنا عدد من العاملين في محال الأسماك فكانوا خير مناصرين.
وقتذاك همست لغيلان :
أتدري أن الوزير النازي غويلز كان محقاً في تصنيفه للمثقفين، فما كان من غيلان إلا أن يصرخ منفعلاً ولا أقول يهتف: يسقط غوبلز، تعيش الكهرباء. رحلت التظاهرة ورحل غيلان ورحلت اللافتة، أما الكهرباء فلم تستقر إلى الآن و: عاشت الكهرباء، يسقط الظلام.