د. خالد عليوي العرداوي
يمر اليوم النظام الدولي، ومعه الإقليمي الشرق أوسطي بوضع مشابه لذلك الوضع الذي ساد في مطلع القرن العشرين، فحالة انعدام الثقة واللايقين تهيمن على جميع مفاصله، وتقاطع المصالح والطموحات لا يخفى على أحد، والاضطراب والتململ يفرض نفسه على الجميع، وما هذا التصاعد في الحديث عن الحرب العالمية الثالثة واستخدام الأسلحة النووية وقرب المعركة النهائية (هرمجدون)، إلا دليل على الرغبات الكامنة لدى اطراف دولية وإقليمية عديدة بتغيير القواعد والمعادلات والتوازنات السائدة وإيجاد قواعد ومعادلات وتوازنات جديدة.
في مطلع القرن العشرين الماضي ساد النظام الدولي القائم -آنذاك- على مبدأ توازن القوى حالة من اللايقين والاضطراب، فظهرت مؤشرات عديدة تدفع باتجاه التغيير؛ بسبب تعمق الخلافات وتقاطع المصالح والطموحات بين القوى العالمية الرئيسة، ما دفع الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت الذي تولى رئاسة البيت البيض بصفته الرئيس السادس والعشرين للمدة (1902- 1909) إلى إطلاق مقولته الشهيرة " تحدث بهدوء واحمل عصا غليظة"، تلك المقولة التي أراد من خلالها التأكيد على ضرورة انتباه صانع القرار الأمريكي إلى أهمية التأني والتبصر فيما يحصل حوله من تطورات، وألا ينشغل كثيرا بخوض الصراعات مع الاخرين، في الوقت نفسه الذي يعمل على تطوير قدرات بلاده الشاملة؛ لتكون قوة ردع فعالة تمنع الآخرين من الإقدام على الاعتداء عليه، وهزيمتهم وتكبدهم ثمنا غاليا اذا فعلوا ذلك.
لقد أسهمت سياسة الحديث بهدوء وحمل العصا الغليظة بفوائد جمة للولايات المتحدة، فواشنطن لم تبادر ابتداء إلى الدخول في الحربين العالميتين الأولى والثانية عند اندلاعهما، ولكنها بعد دخولها حققت افضل الأرباح، فلم تخسر وجودها الامبراطوري كما حصل للإمبراطورية العثمانية وامبراطورية النمسا والمجر، ولم تتحطم وتهزم كما حصل لألمانيا واليابان وإيطاليا، ولم يتراجع نفوذها الدولي كما حصل لفرنسا وبريطانيا. بل خرجت من هذين الحربين اكثر قوة سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وأصبحت القوة الأكبر التي ما زالت تهيمن على النظام الدولي إلى الوقت الحاضر.
انطلاقا مما تقدم، يمر اليوم النظام الدولي، ومعه الإقليمي الشرق أوسطي بوضع مشابه لذلك الوضع الذي ساد في مطلع القرن العشرين، فحالة انعدام الثقة واللايقين تهيمن على جميع مفاصله، وتقاطع المصالح والطموحات لا يخفى على أحد، والاضطراب والتململ يفرض نفسه على الجميع، وما هذا التصاعد في الحديث عن الحرب العالمية الثالثة واستخدام الأسلحة النووية وقرب المعركة النهائية (هرمجدون)، إلا دليل على الرغبات الكامنة لدى اطراف دولية وإقليمية عديدة بتغيير القواعد والمعادلات والتوازنات السائدة وإيجاد قواعد ومعادلات وتوازنات جديدة.
وعليه، لا يمكن بحال من الأحوال إخراج أحداث الشرق الأوسط في السنوات الاخيرة، ومنها سقوط الأسد في سوريا من الصورة الكلية لما يجري على مستوى العالم، وتتطلب مثل هذه الظروف من صانع القرار العراقي التحلي بأعلى درجات الحكمة والتأني والبصيرة في ما يتخذه من قرارات ومواقف في سياسته الخارجية الإقليمية، وهو بحاجة ملحة إلى اتباع نصيحة روزفلت في "التحدث بهدوء، وحمل عصا غليظة"، لذا يقتضي عليه مغادرة لغة استسهال اطلاق التصريحات المدوية، وإثارة الصراعات الخارجية، الناجمة عن الانسياق وراء عواطف جياشة أو ما يعتقده البعض مواقف مبدئية ثابتة، فالسياسة الخارجية لا تصنعها العواطف، ولا تقيدها المبادئ، بل تحكمها وتصنعها ما تضعه الدول لنفسها من اهداف، وما تريد أن تصل اليه من مصالح، وأن الأهداف العراقية في هذه المرحلة يجب أن تتمثل في الخروج من حالة الصراع السائدة في المنطقة بقوة اكبر ودون التعرض لمصير مشابه لمصير الأسد وصدام وغيره من الأنظمة الحاكمة، أما مصالح العراق العليا فهي الحفاظ على الأمن والاستقرار والوحدة والتعايش بين العراقيين، وأن يعود العراق لاعبا دوليا وإقليميا أكثر تأثيرا في رسم معالم المنطقة ووضع جدول الأعمال لمستقبلها القادم.
إن تركيز صانع القرار العراقي على تحقيق وحماية هذه الأهداف والمصالح ينبغي ألا ينسيه أن الحديث عن القوة بلا قوة حديث مجوف وغير قابل للتصديق، ولا يوفر الردع، ولذا عليه بذل الجهود الكبيرة في تطوير وترقية القدرات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية العراقية في مختلف المجالات، وأن يعمل على الارتقاء بأنظمة القيادة والسيطرة والتسليح والتدريب لجميع أجهزته الأمنية والعسكرية، وان يضع حدا لحالة الارباك في ما يتعلق بالقيادة والسيطرة، ومنع تعدد مراكز صنع القرار السياسي الخارجي، وحصر قرار الحرب والسلام بيد الحكومة العراقية دون غيرها.
ولا يمكن القول: إن التغيير الذي يجري حول العراق لن يتمدد اليه بشكل ما، فهذا ما لا يقبله العقل والمنطق، فالتغيير عندما يجري في مكان ما سيترك ارتداداته في جميع ما يحيط به، ولذا على السياسة الخارجية الإقليمية العراقية بذل جهود اكثر نشاطا في التفاوض مع الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة في صناعة التغيير، واقناعها بأن العراق لا يشكل خطرا على مصالحها، في الوقت الذي لا يقبل أن تتحول أرضه إلى ساحة تصفية للحسابات الخارجية، وان تحييد العراق عن الصراعات الخارجية، والحفاظ على أمنه واستقراره يصب في مصالح الجميع، وهذا الامر سيتطلب اجراء تغييرات في الخطابات والسياسات والمواقف والقرارات على مستوى الداخل تحتمها مقتضيات المصلحة العراقية، وإلا فإن العراق سيدفع ثمنا باهظا لا يقوى على تحمله حكومة وشعبا.
إن القائد الجيد هو الذي يحقق الانتصارات بلا حروب، وهو الذي يدع خصومه ومنافسيه يخوضون صراعاتهم في ما بينهم ليخسروا قوتهم ويُضعفوا بعضهم البعض، فيما هو يحافظ على قوته وقدراته وتماسك شعبه، وأن يكون مستعدا للتدخل بهدف تسوية الصراعات والوصول إلى صفقة سلام نهائية تعيد تشكيل الوضع الإقليمي والدولي بطريقة يضمن فيها أن يكون لاعبا رئيسا أو من بين أفضل اللاعبين.
صفوة القول: أوضاع الشرق الأوسط اليوم تحمل من التحديات والتهديدات والمخاطر بقدر ما تحمله من الفرص والمغانم، وما يحتاجه العراق هو رجال دولة اذكياء يعرفون كيفية انتهاز الفرص للحصول على المغانم، لا رجال دولة محدودين يجرون على شعبهم ودولتهم التهديدات والمخاطر، وتحقيق ذلك يتطلب فهم وادراك نصيحة روزفلت الثمينة: تحدثوا بهدوء، واحملوا عصا غليظة.
باحث وأكاديمي