د. حيدر علي الأسدي
هناك من يتصور أن علم الرياضيات يتعارض بالكامل مع اللغة العربيَّة وآدابها أو حتى مع الفنون الجماليَّة الأخرى. ولكن العكس أنهما على صلة وثيقة، وأن ثمة استخداماً تشاركياً واحداً بين كلا العلمين، فكما تمنحك اللغة أداة تواصل بمفردة تتيح لك التقدم بالحياة عبر التواصل مع الآخرين، فإن الرياضيات أداة مهمة لحل المشكلات واتخاذ القرار في مختلف مسارات الحياة.
بداية، لا بدَّ من الإشارة إلى كتاب "بحثاً عن الجمال" لمؤلفه ف. سميلجا الحاصل على الدكتوراه في العلوم الرياضياتية، إذ تناول في كتابه الجمال المضمر في علم الرياضيات بالتحديد "الأنساق الرمزيَّة" وهو ما يقودنا إلى أن مجمل ثقافات الشعوب العامة هي لغة تمثل منظومات رمزيّة ودلاليّة.
في هذا الكتاب بالتحديد يشير المؤلف إلى مقولة البروفسور "ويلارد غيبس" وهو من أهم أساتذة الفيزياء الأمريكيين أوائل القرن العشرين، حينما سُئِل ذات مرّة عن رأيه بتقليل حصص الرياضيات وزيادة حصص اللغات أجابهم بإيجاز "الرياضيات لغة".
أما أستاذة الرياضيات البريطانية "سارة هارت" فقد أصدرت في عام 2023 كتابها "حدث ذات عدد أوّلي" وتعقب المؤلفة على رواية "موبي ديك" تأليف الروائي الأمريكي "هيرمان ملفيل" الصادرة في العام 1851 إنّ هذه الرواية تحتوي على "خزّان من الاستعارات الرياضياتية" وفيها إشارة إلى "شكل رياضياتي يسمى الدُوَيْري". وتذهب هارت إلى أبعد من ذلك حينما تحلل أعمال عدد من الروائيين، مشيرةً الى التضمينات الرياضياتية في أعمال "ليو تولستوي، جيمس جويس، وآخرين".
وفي مجال مقاربة الرياضيات باللغة تتطرّق هارت إلى صاحب الرباعيات عمر الخيام، وهو الذي كانت له انجازات في الرياضيات ومنها "أطروحته عن الجبر، دراسة اقليدس، حل المعادلة التكعيبيَّة، الأعداد غير النسبيَّة". كما وتتحدث عن العلاقة التواشجيَّة وجسور متواصلة بين الأدب والرياضيات.
هذا يقود إلى العلاقة الوثيقة بين الرياضيات واللغة وآدابها بوصفهما يمثلان آليات الفرد، فمن أجل تحليل الصور أو الفكرة يجب إعادتها إلى أجزائها أو خصائصها أو بنياتها في التشكّل الأولي، ولا يتم ذلك من دون استخدام الألفاظ "كلغة" و"الرموز كرياضيات"، ناهيك عن استخدام الرياضيات في مجال البحث والدراسات الأدبيّة اللغويّة بخاصة في ما يتعلق "بالقوانين الصوتيَّة" منظومة العلاقة الرمزيَّة الصوتيَّة والوحدات اللغويَّة والايقاعات الصوتيَّة المنسجمة في موسيقى الشعر، وما يتمثل من تطابق أو ارتباط أو تكوين أو تجاور أو تماثل صوتي أو تغيير أو إضافة، وكذلك قيمة "الفائض" و "الاقتصاد" اللغوي، فهو مشترك ما بين علم الرياضيات وجماليات اللغة ونصوصها الأدبية. وهذا يعني أن للحسابات الدقيقة بتراكيب الجملة جمالية من نوع دقيق وخاص يوفر متعة التلقي ودقة المعلومة المنقولة عبر تشكل الجمل والمعادلات النصيَّة.
إنَّ اللغة العلمية المجرّدة للرياضيات من خلال استخدام الرموز بدلاً من الألفاظ، لا يعني محو لغويَّة هذا العلم، لأنَّ الرموز تكون بمجملها معنى حقيقي لتلك الروابط التي تجمعها، فكما أنَّ للرموز حضورها العلمي في الرياضيات، فإنّ ذلك يتمثل في الشعر، مثلاً الذي ترتكز جمالياته بالتحديد على الرمزيّة والاقتصاد المقنن والإيجاز، فالشاعر يجتهد في بناء نصّه بإيجاز جمالي من دون فوائض كما يفعل الرياضي الباحث عن الطرق المختصرة التي تؤدي الى الحلول وتبسيطها، ناهيك عن حضور الرياضيات في الشعر من خلال عدد الأبيات والأنماط الايقاعيّة الداخلية وعدد التفعيلات والبحور وتداخل علم العروض مع التحليل الرياضي.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى الرياضي الفرنسي "لوران لافورغ" الحائز على جائزة فيلدز في الرياضيات التي تعادل نوبل، فهو تميز بموقفه في ربط مسألة التحكّم في اللغة بالنبوغ في الرياضيات، فكما تقوم الرياضيات على قواعد منطقيّة حسابيّة تتبع المقاييس فإنَّ الأمر لا يبتعد عن القواعد العربيّة وتصريف الأفعال بوصفها قواعد حسابيّة ثابتة.
وكان القدماء يرون أنَّ القول الذي من شأنه أن يصحح رأيا ما يسمى "القياس" وهذا ما يتداخل في العديد من تمثلات النقد الأدبي المعاصر، بل أن عملية ارجاع البنى إلى مرجعياتها وتشكلاتها الأولى يمكن أن نتلمسه بالعديد من المنهجيات النقدية المعاصرة، وهو ما يمثل رؤى تتطابق مع علم الرياضيات الذي يبحث عن القيمة الأولى الحقيقية للأرقام وتفكيك المعادلات صعوداً ونزولاً غاية الوصول إلى التفسير المنطقي "الحل والنتيجة النهائيّة".
من المهم الإشارة إلى أن معظم أفكار اللغوي واللساني السويسري "فردينان دو سوسور" تمثل صدى للفكر الرياضي المعاصر، بخاصة في ما يتعلق بالمدرسة الصورية الشكلية أي فكره ترجمة واقعية للفكر الرياضي في سياقه اللغوي، بخاصة ما يتعلق بمفهوم "العلامة" وتتوضح برؤيته في أن وظيفة اللغة تتوقف عن موقعها ضمن المجموع الكلي والتي تتطابق مع فكر رياضي معاصر يرى أن الرياضيات يتشكّل معناه بعلاقات توجد بينها وليس بطبيعة الأشياء وحسب.
وأحد الأمثلة الأخرى لهذه العلاقة المتشابكة بين علم الرياضيات واللغة وآدابها هو "المسافة" إذ يقول الكاتب إيتالو كالفينو: "كي يكون المرء مرتبطاً حقاً بالآخرين، يجب عليه أن يكون على مسافة منهم" إذ اهتمَّ الرياضيون بمفهوم المسافة بين المكانين أو النقطتين والتي افرزت بالتطور ما يسمى بالفضاء المتري حسب ما عرفه عالم الرياضيات الفرنسي "رينيه موريس فريشيه" متحدثاً عن الفضاء المتري وعناصره المجردة والتي تمثل نقاط هندسية أو توابع أو مصفوفات تقع بينها مسافة تسمى مترك، أو تابع أو دالة مساف، وهو تجريد وتعميم لمفهوم المسافة المتعارف عليه ولكن كلاهما يستلزم الآخر وهو يمثل محاكاة متطابقة لمفهوم المسافة لغويّاً، كما يمكن الإشارة إلى ما ذهب اليه الفيزيائي والرياضي "ويلارد جيبس" فقد وقف ذات يوم في ندوة جامعيّة كانت مكرّسة لتدريس اللغات قائلاً: "الرياضيات عبارة عن لغة".
وجاء في كتاب "اللغة والاقتصاد" للغوي الالماني "فلوريان كولماس" على أن تشبيه الكلمة بالعملة له أيضا تقليد ممتد زمنياً باعتباره دليلاً على الارتباط الأصيل بينهما فجون لوك في كتابه "مقال في التفاهم الإنساني" نهاية القرن السابع عشر يصف الكلمات باعتبارها القاسم المشترك للتجارة والاتصال وهو قاسم لا يمثل ملكية خاصة لأي إنسان. ويجيء في هذا الكتاب: "الكلمات لا تستمد معانيها من طبيعتها المادية باعتبارها سلسلة من الأصوات على سبيل المثال، ولكنها تستمدها من الأغراض التي تؤديها في نقل المضمون غير المادي وقيمة النقود، كذلك لا تقوم على تجسدها المادي، ولكنها تقوم على الوظيفة التي تؤديها باعتبارها وسيلة عامة لتبادل السلع" وهذا تماماً ما يشبه علاقة التواشج بين اللغة بسحر كلماتها والأرقام الرياضية وتشكلها المؤدي إلى المعنى.