حين تكون الرواية شاهداً على العدالة المُزيّفة
باقر صاحب
يقول "إياس" إحدى شخصيات الرواية في نهاية المقطع التعريفي الخاص به "الآن تبدأ حياتي"، بعد أن أراح نفسه من تركة علاقته مع طليقته صفاء، المرأة الغائبة ومعها ابنهما في المهجر، حيث بدا فرحاً بلجوء لين، الحاضرة، إليه، ولن تسافر، لين التي تتحدث في المقطع التعريفي الخاصّ بها عن مقتل المحامي يوسف، كما تذكر أنه حسب ما نشر في "الفيسبوك"، كان مقتله على خلفية تورّطه في عددٍ من القضايا ضد أشخاصٍ فاسدين، كما قرأت تعليقات، يقول معظم أصحابها بأنه كان هارباً من انكشاف أحد ملفات الفساد، كما قرأت عن ترجيح احتمال الانتحار، تلك الطريقة الشائعة في تصفية من يعترض طريق المافيا.
لين التي سيتّهمها المحققّون بالجريمة، كانت مقهورةً من العالم الذي شكّل علاقاتها المعقدة مع يوسف المقتول أو المنتحر، ومن ريما زوجة يوسف ومن صفاء طليقة إياس. والأخير كان هو من تريد أن تبدأ به حياتها أيضاً. ربّما كانت فرحةً لموت يوسف، إذ كانت على علاقةٍ عاطفيةٍ به، فرحها يكمن في أنّها أحسّت بالخلاص من الخديعة، خديعة حبّها ليوسف، الذي سيسافر إلى أميركا، برفقة زوجته ريما.
إياس، لين، ريما، ناديا، نهاد؛ هذه الأسماء، تشكّل المحور الرئيس لأحداث الرواية، ولذا يقدّمها الروائي سومر شحادة في مقاطع تعريفيةٍ خاصّةٍ بكلّ واحدٍ أو واحدةٍ منهـــــــم، تقدّم هذه الشخصيات رؤاها لعالم العلاقات التي تشـــــــــتبك بها مع الآخرين، مع الحفر الســــــردي لدواخل هذه الشخصيات، كلُّ ذلك في الفصـــــل الأول من الرواية ذات الثمانية فصول.
نسائم علاقةٍ عاطفيةٍ جديدة
في مقطع التعريف الخاص به، يشرح إياس خلفية علاقته بلين، صديقة طليقته صفاء، فلجوؤها إليه صباح اليوم التالي لموت يوسف، كان بمثابة هبوب نسائم علاقةٍ عاطفيّةٍ جديدةٍ في حياته، وكان قد حصل بينهما ودٌّ شفيفٌ في حفلة وداع يوسف وزوجته ريما للسفر إلى أميركا، على خلفية تداعيات الحرب في سوريا.
أمد الأحداث في الرواية لم يتجاوز أربعاً وعشرين ساعة، تبدأ من تجمّع الشخصيات أعلاه في منزل يوسف لأجل حفلة الوداع، فضلاً عن مدعوّين آخرين من المحامين ضمن شبكة معارف يوسف، وكذلك نذير خال زوجة يوسف، الرجل الغامض في الرواية، حيث بعد انفضاض السهرة، حدث ما يُشكُّ بأنّه انتحار. نذير الذي له علاقة قرابةٍ مع القضاء، كان مؤثراً في سير مجريات التحقيق، مطالباً المحققين بحسم موت يوسف على أنهُ قتلٌ وليس انتحاراً، كما أنَّ المحقق الرئيس ومعه مساعدان، كانا عجولين في البتّ بالقضية، وإعلان نتيجة التحقيق أمام الرأي العام، وذلك مطلب الجهات العليا.
من هذا العالم العلاقاتي المتشابك بنفوس شخصيّاته المضطربة، نفذت هذه الجريمة، التي اتُّهمت فيها لين، لأنّهُ في عالم اللاعدالة، ينبغي أن يكون هناك متَّهمٌ بريء، توجيه الاتّهام إلى لين كان مع سبق الإصرار، لأنّه حين استجوب المحقّقون ريما، أدلت بشهادة، بأنّها هي التي قتلت يوسف، بما معناه لا تتّهموا بريئةً في قتله. شهادة أربكت مسار التحقيق، وحين تشاوروا مع نذير، رفض التحريف الجديد لمسار التحقيق، حيث جهّز شهوداً آخرين، من بينهم صاحب السوبر ماركت، وحارس البناء الذي فيه شقة يوسف، اللذان أشارا بعودة لين إلى مسرح الجريمة ثانيةً، قبل وقتٍ قليلٍ من حدوثها.
العشيقة المغدورة
وما دامت الجريمة هي بؤرة الحدث، فإنّ المتهمة لين، تصبح قبلة أنظار الجميع، كما أنّ الحديث عن كلِّ شيءٍ يتعلّق بها، التهم الكثير من صفحات الرواية. لين التي تعيش وحيدةً في غرفةٍ مؤجّرة، تعيش منفصلةً عن أبويها، مثلما تخاف الارتباط الدائمي، هي المُشبعة بحكايات الانفصال بين الأزواج، لكنّها رمت نفسها في حكاياتٍ لا أمل منها، وتقصد المصير المسدود في علاقتها مع يوسف، التي انتهت بموته. قررت الانتقام من واقعها المتأزم، لا عبر قتل يوسف، كما تشير لائحة الاتّهام الرسمية، بل باللجوء إلى إياس، في صباح اليوم التالي لموت يوسف، لأنّها تعلم أن الطريقة الوحيدة لدخول حياته، هي أن تفرض نفسها عليه.
كانت لين قد هجست أنّه ربما سيوجَّه الاتّهام إليها، فهي بعد أن غادرت حفلة الوداع مبكراً، بعد أن تجاهلها يوسف أيضاً، عادت مرةً أخرى إلى مسرح الحدث، عودتها كانت الخطأ القاتل. لقد رآها زملاء يوسف في هذه العودة الثانية، وذكروا ذلك أمام المحققين، مما أرسل إلى المحققين تأكيداً على اتّهامها بقتله. كانت تتمازح مع ما أصبح خطأها الكبير: "لا أنسى مظهري في الشارع أمام زملائه، بدا أنّي مقدمةٌ على جريمة قتل. أمرّ مضحك. لا أستطيع أن أمنع نفسي من الضحك لهذا الخاطر، وهو أن يترك تعذّر وداع الأحبّة على الوجوه إيحاءً يشبه تعابير مرتكبي الجرائم" الرواية- ص 39 .
السيناريو المُدبّر
لم يتضّح السيناريو القاضي باتّهام لين بالقتل، إلّا عندما استدعى المحققون نهاد والد يوسف، الذين سمّوه الشاهد الملك، وهو الممثل الأخير في مسرحية الاتّهام؛ لين كقاتلة، وإياس كمتستّرٍ عليها، ما أدلاه المحقّق الرئيسي على مسمع الشاهد الملك، ما هو إلا تقنيّةٌ سرديّةٌ استخدمها الروائي، ليوضّح للقارئ تفاصيل القضية بحسب رؤية العدالة المُزيّفة، فسرد للشاهد الملك الحكاية الغامضة كي يوافق شكليّاً ولو بالإيماءة، بأنّه هذا ما جرى فعلاً؛ ابنه يوسف قتلته عشيقته بمساعدة صديقه، حيث كان يوسف على علاقةٍ مع زوجة صديقه إياس، وانفصلت زوجته صفاء عنه جرّاء خيانةٍ صعبة. يوسف أهدى صديقه إياس منزلاً رخيصاً قياساً بفقد العائلة: الزوجة والابن. إهانةٌ لم يستطع إياس تقبّلها. كما أنّ يوسف وعد عشيقته بالزواج منها، ومن ثمّ قرّر أن يسافر مع زوجته، ويبدأ حياةً جديدة، وهذا استخفافٌ بمشاعر العشيقة لين، التي وجدت من يساندها كي تنتقم. المحقق الرئيسي، يقول لوالد يوسف" فعلنا ما بوسعنا لترتيب هذا السيناريو. وإبعاد أيّ تشويشٍ عن جوهر التحقيق. هل توافقنا عليه". الشاهد الملك أو الأخرس، أومأ بنعم.
أحسب أن الروائي قدحت عنده في البدء، هذه الفكرة البوليسية، وأقام عليها معمار الرواية، ومن ثم هيكلها في منحيين: العلاقات الحميمة والمريبة والمتداخلة بين شخصيات الرواية الأساسيين، ومن ثمّ الشقّ البوليسي، شقّ التحقيق مع الشخصيات ذاتها، حيث يقتحم عالم الرواية المحقق الرئيس ومساعداه ليفتحوا ملف العلاقات ثانيةً بصيغ اتّهامية متعدّدة، لتنحسر إلى صيغةٍ واحدة، وهي الضرورة الحتمية في اتّهام لين، لأنّه لا بُدّ من مُتّهم، لكي لا تبقى نهايات التحقيق مفتوحة، ومن ثمَّ لا بدَّ من إحقاق العدالة الرسميَّة في غضون أربع وعشرين ساعة، حيث المشهد الأخير، تمثّل في مداهمة الأمن الجنائي لشقة إياس، وكان هو ولين عاريين، وقد اقتيدت لين بعنفٍ إلى سيارة الأمن، كان إياس قد أدرك أن بإمكانه التحرّر من سطوة طليقته صفاء، فكلّ شيءٍ في المنزل يذكّره بها، وتذكر الرواية في صفحتها الأخيرة بأنه أخذ يغالب شعوراً مريراً وقاهراً بالقول لنفسه: الآن بدأت حياتي.
هذه الرواية بحبكتها البوليسية المحزنة، حيث لم تتّخذ العدالة الحقيقية مجراها الصافي، تحمل في طيّات سرديّاتها الشفافة، ثنائية وهم الحب والانتظار، من جهة لين مع يوسف، كما ثنائية الصداقة والخديعة، من جهة لين وريما، بوصف الأولى عشيقة زوجها يوسف، وقبلاً لجهة صفاء مع ريما، بوصف الأولى أيضاً من عشيقات يوسف. إنّها روايةٌ تصوّر عالماً مضطرباً في زمن انعدام الحريات.