ابراهيم العبادي
في العام 1991 كتب الراحل محمد حسنين هيكل كتابه، أوهام القوة والنصر،عن ازمة الخليج الثانية (احتلال صدام للكويت)، في هذا الكتاب الذي تعرض - كسائر كتب هيكل الاخرى - لنقد واتهامات للكاتب، حاول هيكل أن يفند فكرة صناعة التاريخ وتغيير الخرائط الجيوسياسية عبر القوة وأدواتها وترسيخ النصر العسكري كحقيقة تصنع واقعا جديدا.
أوهام القوة مرض عالمي، عمره عمر الدول والامبراطوريات والقوى التي تحاربت ورسمت بأسلحتها وعقول قادتها، ملامح وحدود الدول والنظم السياسية والوحدات الجغرافية.
منطقة الشرق الأوسط أخذت حيزا كبيرا من صفحات ديوان الحروب والصراعات والفتن الداخلية والحروب الاهلية، فلا يكاد تمر بضع سنوات دونما حرب كبيرة أو نزاع دام أو صراع مزمن لدواع مختلفة، يكون ضحاياه الآلاف من البشر بل الملايين، وخسائر لا تحصى من الفرص الضائعة والامكانات المهدورة. قديما قيل إن الأمم تتحارب بسبب البحث عن المكانة والشرف والرغبة في التوسع وشهوة المجد والرغبة في توكيد الشرعية، حديثا صارت الحروب تنطلق بسبب المخاوف من الإخضاع والهيمنة والتضييق على المجال الحيوي والبحث عن الموارد والامدادات، والمنافسة على الزعامة الدولية أو الاقليمية.
ما من حرب اندلعت الا وكان اختلال ميزان القوى الواقعي أو الافتراضي أحد أهم الأسباب المحركة لتلك الحرب، في اذهان القادة وصناع السياسات وواضعي الستراتيجيات. كان الشرق الاوسط وما يزال المثال النموذجي للنطاق الجغرافي، الذي يعج بسياسات الحرب التي يشنها حكام وقادة جماعات بناء على معطيات ومعلومات وخطط ناقصة واوهام قوة لايعززها الواقع ويفندها الميدان غالبا. في أوائل القرن العشرين دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب المانيا ضد دول الحلفاء، دونما حسابات واقعية لميزان القوى، فكانت النتيجة سقوط التاج العثماني واقتسام التركة بين المنتصرين، عام 1967 توهم جمال عبدالناصر ان قوة مصر كافية لردع الكيان الاسرائيلي وانه قادر على انتزاع نصر تكتيكي بالتلويح بالضغط العسكري
وسحب قوة السلام الدولية من سيناء، فتفاجأ بضربة اسرائيلية حطمت الكبرياء القومي وانزلت صدمة وخسارة فادحة بالعرب لم يستعيدوا بعدها توازنهم واراضيهم حتى اليوم.
عام 1980 توهم صدام حسين أن قوته العسكرية المتعاظمة وتراجع قوة ايران العسكرية - بسبب الثورة ومضاعفاتها الداخلية، وارتداداتها على موقع ايران الجيوسياسي - سيتوجانه بطلا قوميا وزعيما اقليميا قادرا على أن يقود المنطقة وفقا لطموحاته، كان سوء التخطيط والتقدير وعدم المعرفة الكافية بقوة الخصم المادية والبشرية سببا كافيا، لتشكل الحرب كابوسا مدمرا قاد إلى سلسلة أخطاء وكوارث متلاحقة بما فيها غزو الكويت، كان صدام يتوهم عدم قدرة الغرب ودول الاقليم على اخراجه من الكويت أو الحاق اذى كبير بالعراق، بل ذهب بعيدا في منطق القوة المتوهمة عندما ادعى في مؤتمر صحافي انه قادر على حرق نصف اسرائيل بصواريخه؟، بعد اندلاع الحرب وهزيمة العراق، لم تجر محاسبة أو مراجعة للأوهام والخطط والسياسات الغبية، لأن صاحب القرار هو رأس النظام نفسه، وذهب النظام إلى البحث عن اكباش فداء من بين قادة الجيش يحملهم مسؤولية الهزيمة والفشل؟.
لم يتعلم احد في المنطقة من دروس الهزائم والانتصارات وظلت مقولة النصر الحتمي تداعب مخيلة الزعامات الصغيرة والكبيرة، اضاف اليها البعض امتيازا اخرا هو شرعية الموقف والنهج الإسلامي والثقة المفرطة بحقانية السياسات والاستراتيجيات والتعويل على عوامل غير محسوبة ومعلومات ناقصة أو مضخمة عن الذات والعدو. من أكبر المشكلات التي تسهم في صناعة الوهم هو الانفصال عن الواقع، بالمغالاة في قوة الذات وضعف الخصم، وذلك ناشئ من وجود حلقات من الذين يقدمون معلومات غير واقعية ويتجاوزون الواقع الموضوعي ويزيفون الصورة الواقعية واستبدالها بصور متخيلة في غياب مناقشات جادة ونقد موضوعي وحسابات صارمة، لا يمكن الدخول في حرب وانت لم تحسب قوة الخصم حسابا موضوعيا ثم تعوض الضعف بعوامل الايمان والتوكل على الله، قد تكون معذورا في الحرب المباغتة التي يهاجمك فيها العدو وانت في موقع الدفاع، لكن النصر الالهي ليس حتميا في كل الاحوال، فذلك خاضع لسنن الباري تعالى وتحقق شروط النصر من عدمها.
العامل الثاني في توهم القوة والثقة بالنصر،هو الاعلام الموجه والدعاية المركزة التي تصنع وعيا زائفا بحتمية النصر وامتلاك القوة، بما يسهم في الترويج لصور مثالية وثقة مفرطة غير واقعية (لمن يعجبه مقايسات التاريخ، ليتذكر هزيمة المسلمين في معركة حنين رغم الكثرة الكاثرة،(ويوم حنين اذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم) . يسهم التفكير الرغبوي والتنبؤات والأحلام في صناعة الأوهام فيقع القادة ضحية التفاؤل المفرط والاعتقاد بان الأمور ستسير كما يتمنون، بغض النظر عن الحقائق على الأرض. ان الشعور الزائف بالقوة والتقليل من امكانات وقدرات العدو وتفوقه يأتي بسبب الضغط السياسي والشعبي الناتج بدوره من الرغبة في اتخاذ قرارات جريئة لإثبات الجدارة والاهلية، وتجنب الظهور بمظهر الضعيف، إن أوهام القوة والنصر نتاج عوامل نفسية - اجتماعية -سياسية تعززها معطيات مادية قد يكون بينها انصاف خبراء وثوار متحمسون، ونزعات متطرفة، ومستشارون تنقصهم الامانة والشجاعة في قول الحقيقة، وقد يكون الجميع اتباع ايديولوجية ليس في حساباتها مقاربة الواقع واشتراطاته.