كرة القدم للمكفوفين تحطمُ قيودَ الإعاقة

بانوراما 2024/12/26
...

 سام جوزيف

 ترجمة: بهاء سلمان

لا يشتهر لاعبو دولة جنوب السودان بحضورهم في كرة القدم، فعادة ما يرتبطون بكرة السلة، حيث يوجد العديد من لاعبي الدوري الأميركي من المحترفين الحاليين والسابقين الذين لديهم جذور من هذه الدولة، وشارك منتخب كرة السلة، الملقب باسم "النجوم اللامعة"، بأولمبياد باريس كأول ظهور دولي منتصف هذا العام.

لكن إحدى المسابقات الشعبية بدأت بإحداث ضجة عبر البلاد بنسخة مختلفة من اللعبة الجميلة، وتسلّط الضوء على حالات الإعاقة لسكان البلاد. ويحظى الدوري الممتاز للمكفوفين في جنوب السودان بدعم من منظمة "ضوء من أجل العالم"، وهي منظمة غير حكومية ترعى حقوق من يعانون الإعاقة في دول جنوب السودان وبوركينا فاسو وإثيوبيا وكينيا وموزمبيق وأوغندا؛ وتركّز على صحة العين وتعمل مع "المجتمعات المحرومة"، على مساعدة الأشخاص من ذوي الإعاقة الذين يواجهون حواجز متعددة، مثل الأطفال والنساء والمجتمعات الريفية والمتضررين من الكوارث.


"ميسي" جديد

بدأت البطولة الرائدة بإجراء المباريات سنة 2023، وتتكوّن حاليا من أربعة فرق، جميعها تتخذ من عاصمة البلاد؛ جوبا مقرا لها. ويبلغ معظم اللاعبين العشرينيات من العمر، ومع ذلك، فهم يضمون بينهم أصغر لاعب، إذ يبلغ من العمر 15 عاما. بالنسبة لأولئك المشاركين في البطولة، فإنها توفر فرصة اعتقد الكثيرون أنهم لن يحصلوا عليها أبدا. 

لم يسمع "جيمي أوغستين"، قائد نادي كاتور لكرة القدم للمكفوفين مطلقا عن كرة القدم للمكفوفين قبل أن يتم تقديمه لها. أصيب أوغستين بالعمى عندما كان طفلا سنة 2012، حيث عانى من ألم في كلتا عينيه، لكن طبيب القرية أخبره بأنه لا يوجد شيء خاطئ يتعلق بالعينين، ليراجع لاحقا أحد أطباء العاصمة جوبا، ولكن يبدو أن الضرر وصل إلى تلف لشبكية عينه لدرجة لا يمكن إصلاحه.

اضطر أوغستين إلى التخلي عن كرة القدم، لكنه اكتشف تشكيلة المكفوفين نهاية العام 2020، ليطلق عليه زملاؤه في الفريق لقب "ميسي"، على اسم أسطورة كرة القدم الأرجنتينية، نتيجة لقدرته المبهرة على المراوغة. ويعلق هو على ذلك: "أنا سعيد جدا بهذه التجربة، لأنني لم أتوقع مطلقا بالعودة للعب كرة القدم مرة أخرى.. كنت أفكر أنني لن أتمكن أبدا من ممارسة أي نوع من الرياضة مرة أخرى، فمع الإعاقة، تراودك أفكار من نوع " أنا لا شيء، ليس لديّ ما أفعله الآن، أنا عديم الفائدة‘. لكنني حاليا لدي فرصة ممارسة كرة القدم ودحرجتها. وصار لدي أصدقاء جدد، وهذه التجربة التي حصلت عليها من كرة القدم للمكفوفين تجعلني سعيدا للغاية."


طموح مستقبلي

بعيدا عن الملعب، فقد أنهى أوغستين السنة الأولى في جامعة جوبا، ويروّج لمسألة دمج الإعاقة داخل المدارس؛ وتحدث عن ما يعنيه له أن يكون قدوة للأشخاص الآخرين من ذوي الإعاقة: "الإعاقة لا تعني عدم القدرة.. إذا كنت لا ترى، فهذا لا يعني أنك عديم الفائدة أو غير قادر على القيام بشيء ما" مضيفا أنه يقول للمكفوفين: "إذا كنت تريد تغيير حياتك، تعال وانّضم إلى كرة القدم معنا."

تختلف قواعد كرة القدم للمكفوفين بشكل كبير عن نظيرتها للأشخاص الأصحاء؛ حيث يتكوّن كل فريق من خمسة لاعبين: أربعة لاعبين داخل الملعب مع حارس مرمى. يجب تصنيف لاعبي الملعب على أنهم "مكفوفين تماما" أي أنهم "لديهم حدّة بصريّة منخفضة للغاية، أو لا يدركون الضوء"، إلا أنه يجب على الجميع ارتداء رقعة على أعينهم وأغطية للعين، حيث قد يرى البعض المزيد من الضوء والظلال مقارنة بالآخرين.

من ناحية أخرى، يكون حراس المرمى مبصرين أو ضعاف البصر ويوفرون إتصالا حيويا لفريقهم في الدفاع، على الرغم من أنه يجب عليهم البقاء داخل المنطقة الصغيرة المحددة حول المرمى. وتكون الكرة مزوّدة بما يثير الخشخشة داخلها، وتصدر ضوضاء أثناء تحركها. تشتهر مباريات كرة القدم بحشودها الصاخبة، ولكن يتعيّن على متفرجي كرة القدم المكفوفين إلتزام الصمت أثناء المباراة، حتى يتمكّن اللاعبون من سماع وتحديد موقع الكرة، وهي بحجم "ثلاثة" المعروف بأنه أصغر من حجم كرة القدم القياسية ذات الحجم "خمسة" المستخدمة في لعبة 11 لاعبا للأصحاء.


قوانين خاصة

تبلغ مدة المباريات 40 دقيقة، تلعب على شوطين، مدة كل منهما 20 دقيقة، وتقام على ملاعب بأبعاد 40 مترا في 20 مترا، وتحتوي على جدران تحيطها بالكامل لمنع الكرة من الخروج من اللعب، ما يسمح بلعبة أسرع. يجب على اللاعبين أن يصرخوا بكلمة "فوي- voy"، بمعنى "أنا ذاهب" باللغة الإسبانية، كإشارة إلى جذور اللعبة الأيبيرية، عند القيام بتدخّل لتحذير الخصوم وتقليل الاصابات. كما يوجد مرشدان آخران؛ لدى كل فريق؛ لمساعدتهم، أحدهما عند خط المنتصف والآخر خلف المرمى الذي يهاجمه الفريق.

جعل الاتحاد الدولي لرياضات المكفوفين (IBSA) كرة القدم للمكفوفين واحدة من رياضاتها الرسمية منذ العام 1996، وكانت حدثا بارالمبيا للرجال منذ العام 2004. وحققت الدولة المضيفة؛ فرنسا؛ تاريخا في دورة الألعاب البارالمبية 2024 التي شهدتها العاصمة باريس، حيث فازت بأول ميدالية ذهبيّة لها عبر هذه الرياضة بفوزها على الأرجنتين بركلات الترجيح خلال المباراة النهائية. أنهت الأرجنتين هيمنة البرازيل لدى وصولها إلى الدور قبل النهائي، والتي فازت بالميدالية الذهبية خلال كل الألعاب منذ بدء الحدث. واضطر السيليساو إلى الاكتفاء بالميدالية البرونزية، بعد فوزه على كولومبيا خلال مباراة المركز الثالث.

بعد عقود من الحرب الأهلية، نال إقليم جنوب السودان استقلاله عن جمهورية السودان مطلع العام 2011 بعد إجراء استفتاء عام، ما جعله أحدث دولة معترف بها على مستوى العالم. ثم انزلقت الدولة إلى حرب أهلية خاصة بها بعد فترة وجيزة، وانتهت الحرب رسميا سنة 2018، على الرغم من استمرار العنف حتى يومنا هذا. ووفقا لوكالة الأمم المتحدة للاجئين، أنتج الصراع أكبر أزمة لاجئين داخل إفريقيا.

وتتبوأ دولة جنوب السودان المرتبة الثانية من الأخير، قبل الصومال فقط، على مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة؛ كما فر نحو مليونين ونصف مليون إنسان من البلاد كلاجئين منذ حزيران 2023، بينما تم تصنيف الحجم نفسه كنازحين داخل أراضي دولة جنوب السودان. ومن بينهم "سيمون مادول"، الذي يعيش في مخيم مهاد للنازحين داخليا في جوبا.


عودة الأمل

يقول مادول إن كرة القدم كانت "مصدر سعادته وفرحه"، لكنه اضطر للتخلي عنها عندما إندلعت الحرب الأهلية سنة 2013. وأوضح أنه ارتبط بصنوف الرياضة الشاملة عندما تواصلت معه منظمة "ضوء من أجل العالم"، اثناء زيارتها لمخيم النازحين. وهو يعمل حاليا كمدرب ومديرا فنيا للدوري ويعمل مع المنظمة كمنسق تسهيل شؤون ادماج ذوي الإعاقة.

ووفقا لمنظمة ضوء من أجل العالم، يقدر عدد ذوي الإعاقة في جنوب السودان بما يزيد عن مليون شخص. ووقعت البلاد على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق ذوي الإعاقة العام الماضي وعدت حينها خطوة تاريخية. وشرح مادول بعض التحديات التي يواجهها ذوو الإعاقة في بلاده التي تعاني من الصراعات الداخلية، ويقول: "إن التحدي الرئيسي هو موقف الناس السلبي؛ حتى على مستوى الأسرة والمجتمع وبصورة دائمة، ما يؤدي إلى التمييز الفعلي."

وفقا لمادول، فإن الجهل هو جذر المشكلة، ويمكن أن يثني الناس عن المشاركة، مثل كرة القدم للمكفوفين. هناك أيضا قضايا يومية يواجهها المكفوفون مع دوائر العمل. يقول مادول: "معظم المؤسسات غير متاحة.. قد تجد أنك تريد الذهاب إلى المكاتب، وهناك سلالم، ولا توجد منحدرات، فيصبح من الصعب عليك الذهاب حتى إلى المدارس، وهذه الأشياء موجودة فعلا."

وعندما يتعلق الأمر بكرة القدم للمكفوفين نفسها، فإن الرياضة ليست متاحة بعد كما ينبغي أن تكون. وأوضح مادول أن الكرة الخاصة باللعبة غير متاحة للشراء في البلاد، حيث يتعيّن على مجاميع مثل "ضوء من أجل العالم" توفير المعدات، لأن اللاعبين غير قادرين على إجراء التمارين في أماكن أخرى غير ساحة التدريب. ومن المقرر أن تجرى المباريات نهاية كل عطلة نهاية أسبوع، رغم أن استئجار الملاعب مكلف نوعما.


توجهات جديدة

على الرغم من بعض أوجه القصور، كان للمسابقة تأثير إيجابي سريع، حيث يصفها أوغستين بأنها ساعدت على زيادة الوعي بالإعاقات ومكافحة المواقف السلبية ضدها، بينما يؤكّد مادول أنها أعطت أعضاءها اتجاها جديدا للحياة، ويضيف: "يأتي الناس من أماكن بعيدة لمجرد المجيء ولعب هذه الرياضة.. سابقا، كانوا يذهبون فقط من المنزل إلى المدرسة، ومنها إلى المنزل، لكن الآن، هناك كرة القدم للمكفوفين، فتجد وجوها جديدة تتفاعل وتؤسس لمزيد من الروابط وتبتهج لفعل أشياء أخرى في الخارج، فالجميع يدعمون هؤلاء."

ورغم أن الدوري تجاوز عمره عاما واحدا فقط ولا يزال ناشئا نسبيا، إلا أنه يركز على التوسّع. ويقول مادول إن الهدف هو إشراك فرق من كل ولاية في جنوب السودان، وقام بزيارة اجزاء مختلفة من البلاد لتقييم كيفية تعزيز دوري كرة القدم للمكفوفين وتوسيعه.

الدوري لديه أيضا تطلعات دولية سامية، فبحسب مادول، فلدى المنظمين حاليا توجه للتسجيل لدى الاتحاد الدولي لرياضات المكفوفين لتمهيد مسار لجنوب السودان للتنافس في بطولة أفريقيا لكرة القدم للمكفوفين المزمع اقامتها سنة 2026؛ حيث يمكن أن يمنح النجاح خلال هذه البطولة البلاد طريقا للمشاركة في بطولة العالم لكرة القدم للمكفوفين. "ومن خلال كأس العالم لكرة القدم للمكفوفين، من يدري؟ ربما سنة 2028، مع الألعاب البارالمبية القادمة، قد نشارك. وإذا لم نشارك، فسنكون قد أعددنا بالفعل طريقا، وعلى الفور، سيجري تجميع الجيل القادم من هناك."

"الحلم" لم يعد طريقة مناسبة لوصف أهداف الدوري واللاعبين، فقد تكون كلمة "هدف" هي المصطلح الأكثر ملاءمة. "كان حلما، لكنه أصبح الآن حقيقة لأننا نعمل عليه الآن"، بحسب وصفه، "فاليوم، نحن المؤسسين وغدا، سيأتي الجيل القادم ويتولى المسؤولية منا."


وكالة سي ان ان الاميركية