الهجرة غير الشرعيَّة.. أملٌ على قارب الموت
بغداد : نور اللامي
وسرور العلي
في عام 2015، اتخذ "أحمد عماد" قراره بمغادرة العراق، مدفوعاً بالدمار الذي أصاب المحافظات جراء دخول عصابات داعش الإرهابية، واليأس من تحقيق أحلام الشباب في وطنه.
كانت الخطوة الأولى صعبة، خصوصاً إقناع والدته التي رفضت الفكرة تماماً.
يتذكر أحمد كيف قال لها: "إذا صار بينا شي تتحملين المسؤولية"، وهو ما دفعها في النهاية للموافقة، ليرحل مع أسرته إلى وجهة أولى كانت أربيل.
بعد الوصول إلى أربيل، شعر أحمد لأول مرة بثقل الغربة، حيث كانت فكرة العودة تسيطر عليه، لكنه كان يعلم أن أسرته ستعد ذلك تراجعًا غير مقبول.
انتقل بعدها إلى تركيا، حيث توجه إلى أنقرة وقدّم طلب اللجوء لدى مكتب الأمم المتحدة بهدف السفر إلى أوروبا.
يقول أحمد : "في تركيا بدأت معاناة أخرى ممزوجة بآلام الغربة والعمل الشاق.
حيث اشتغل في وظائف عديدة، من شركات تنظيف إلى مصانع غذائية، لساعات طويلة تبدأ في السادسة صباحاً ولا تنتهي قبل السابعة مساء، وبأجور زهيدة.
"الله كريم، هسه نطلع لأوروبا ونشبع فلوس"، هكذا كان يواسي نفسه رغم الظروف القاسية.
مع مرور الوقت، تعلّم أحمد اللغة التركية، ما ساعده في الحصول على فرص عمل بأجور أفضل.
لكن الأمل بالوصول إلى أوروبا بقي معلقاً لسنوات دون أي رد رسمي على طلبه، بينما سبقته أسر أخرى تقدمت بعده وحصلت على الإقامة في الدول الأوروبية.
وتنتشر مافيات تهريب البشر في تلك البلدان، التي تعمل على نقلهم وتأمين خطة الهروب، وايهامهم بواقع أفضل، ويسعى كثيرون منهم للترويج لتجارتهم، من أجل كسب مبالغ مالية، إذ تمكنوا من تهريب مئات العراقيين إلى تركيا، ومن ثم إلى إحدى الدول الأوروبية عبر رحلات بحرية أو برية، وعند وصولهم لتلك البلدان يقومون بطلب اللجوء من السلطات
هناك.
يقول مصطفى الجبوري (35 عاماً): "تمكنت من الهجرة مع شباب آخرين إلى تركيا، ومن ثم إلى دول عدة وصولاً إلى السويد بعد الاتفاق مع مهرب، وتسليمه مبلغ 6500 دولار لكل
شخص".
إلا أن قصة أحمد داوود (32 عاماً)، باءت بالفشل وعن ذلك تحدث لـ"الصباح"،:"وصلت إلى تركيا من خلال شخص مهرب، ومن هناك غادرنا برحلة تضم شباباً من مختلف الدول العربية، من مصر وسوريا وليبيا، ثم سرنا في الغابات والجبال لأيام عدة، وواجهتنا الكثير من التحديات، ونفد كل ما لدينا من طعام واضطررنا لشرب المياه من المستنقعات المتسخة، فلم تكن أمامنا حلول أخرى، ثم انضممنا لمخيمات يسكنها مهاجرون على الحدود مع السويد".
وأضاف: "تلاشى حلم الهجرة بعد المعاناة التي واجهتني، ما دفعني للعودة إلى تركيا من خلال مهرب آخر، ومن ثم العودة إلى بغداد".
ويرى داوود أنه أكثر حظاً من آخرين فقدوا حياتهم أثناء تلك الهجرة، عبر اعتقالهم، أوغرقهم في البحار.
الهجرة غير الشرعية تحمل تأثيرات نفسية متعددة، تؤثر في الأفراد والمجتمعات توضحها المختصة في الشأن النفسي الدكتورة بتول عيسى بالقول: "يتعرض المهاجرون غير الشرعيين لمستويات عالية من القلق، بسبب عدم اليقين حول مستقبلهم، كاحتمال الترحيل أو فقدان الهوية، والخوف المستمر من التهديدات الخارجية، كالاعتقالات أو التمييز، ويواجه المهاجرون صعوبة في التكيف مع المجتمعات الجديدة، ما قد يؤدي إلى شعورهم بالعزلة، ويشعر البعض بفقدان الهوية الثقافية والاجتماعية عندما ينتقلون إلى بيئات جديدة، قد يؤدي ذلك إلى صراع داخلي حول انتمائهم، وقد يتعرض المهاجرون لتجارب صادمة أثناء رحلتهم، كالعنف أو الاستغلال، ما قد يؤثر سلباً في صحتهم النفسية، وقد يعاني المهاجرون من نقص في الخدمات النفسية والدعم الاجتماعي، ما يزيد من خطر تفاقم الأزمات النفسية".
وأضافت:"لذلك تتطلب التأثيرات النفسية للهجرة غير الشرعية، فهماً شاملاً ووعياً عن كيفية دعم هؤلاء الأفراد، ومساعدتهم على التعامل مع التحديات التي يواجهونها، إذ إن توفير الخدمات النفسية والدعم الاجتماعي، يمكن أن يسهم في تحسين صحتهم النفسية".
الأسباب الاقتصاديَّة
يؤكد خبير الاقتصاد الدولي الدكتور نوار السعدي، أن الحكومة مطالبة باتخاذ إجراءات جذرية تشمل توفير فرص عمل في القطاعات غير النفطية، لتنويع مصادر الدخل الوطني وتقليل الاعتماد على النفط.
كما يجب مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في المؤسسات الحكومية لتحسين مناخ الاستثمار وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، ما يسهم في خلق المزيد من فرص العمل
للشباب، والتي تكفل لهم عيشاً كريماً بما يجعلهم يتخلون عن فكرة الهجرة.
وتطرق الدكتور نوار السعدي إلى التغيرات الاقتصادية في أوروبا ودورها في التأثير على مسارات الهجرة، حيث تعاني دول القارة من أزمات اقتصادية مثل التضخم والركود، ما يقلل من فرص العمل والدعم الاجتماعي للمهاجرين.
كما أن السياسات الأوروبية المتشددة تجاه الهجرة تزيد من صعوبة الأوضاع بالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين.
وعلى الصعيد المحلي، حذر السعدي من التأثير السلبي للهجرة غير الشرعية في الاقتصاد العراقي، خاصة في ما يتعلق بفقدان الكفاءات البشرية وهجرة العقول.
بدوره، قال الخبير الاقتصادي باسم جميل انطوان: "يمكن تقدير الأضرار الاقتصادية لهجرة العراقيين، بتعطلهم عن العمل لفترة معينة، وتوقف الإنتاج بالنسبة لهم، وهذا سيؤثر بشكل سلبي في البلد، وسيفقد عناصر شابة تسهم في العملية الإنتاجية، ما ينعكس على البلد اقتصادياً"، مضيفاً في حديثه لـ"الصباح": نسعى إلى أن لا تذهب تلك الطاقات إلى جهات أخرى، لذلك من الضروري عودتها لخدمة العراق".
جهود الحكومة
في العراق أطلقت الحكومة "الخطة الوطنية الشاملة للحد من الهجرة غير الشرعية" لمعالجة أسباب الظاهرة والحد من آثارها السلبية، عبر محاور تشمل الإعلام والقانون والاقتصاد والتعاون الدولي.
تضمنت الجهود المصادقة على الخطة، وإقامة ورش عمل توعوية نظمتها وزارتا العدل والتعليم، واجتماعات أكاديمية وبحثية استهدفت الشباب، من أجل تعزيز الوعي المجتمعي وتحسين الأوضاع الاقتصادية والقانونية وتوفير بيئة مستقرة وآمنة للمواطنين.
وتؤكد وزارة الهجرة والمهجرين، عدم وجود إحصائية دقيقة بعدد العراقيين المهاجرين هجرة غير شرعية، باعتبار الذين غادروا كانت مغادرتهم سليمة بـ {فيزا} سياحية وغيرها، ومن ثم يتخذون قرار الهجرة، والعبور من خلال دولة معينة إلى بلدان أوروبا، إلا أن منظمة مشروع المهاجر الدولية، أفادت بأن أكثر من نصف مليون عراقي، غالبيتهم من الشباب، هاجروا إلى الخارج بطرق غير شرعية منذ عام 2014.
وفي 2018، أشار موقع الهجرة العالمي إلى أن عدد المهاجرين العراقيين غير الشرعيين المقيمين في دول أخرى بلغ حوالي 366,600 شخص، ما يمثل نسبة 1% من إجمالي السكان.
كما بلغ العدد الكلي للمهاجرين الذين تركوا البلاد 1.7 مليون نسمة.
ويوضح المتحدث باسم وزارة الهجرة والمهجرين، علي جهاكير في حديثه لـ"الصباح": أن الوزارة تمتلك أرقاماً حصلت عليها من البعثات الدبلوماسية وسفارات العراق في الخارج، إلا أنها تختلف عن الواقع والمثبت حسب المرصود، أما غير المرصود فقد يكون أكثر بكثير من تلك الأرقام، وبالنتيجة الهجرة غير الشرعية، هي ظاهرة توسعت آفاقها بعد أحداث عام 2003، وبلغت ذروتها في العام 2014.
وتابع جهاكير حديثه "الحكومة من خلال تشكيل لجنة دراسة في وزارة الهجرة والمهجرين، وعضوية كل من المؤسسات الحكومية التي لها دور في هذا الملف، اتخذت اجراءات عدة وكانت تلامس هذه الظاهرة، لذلك نجد ظاهرة الهجرة انخفضت بنسبة كبيرة، وتمت معالجة أو متابعة بعض شبكات التهريب، التي كانت تروج من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وعن طريق بعض الأشخاص الذين يحاولون الايقاع بالشباب في شبكة التهريب".
وأكد المتحدث أن "جملة من الإجراءات جاءت بنتائج إيجابية ونعول عليها، وكوزارة أعددنا برامج كثيرة استهدفنا فيها الشباب في الجامعات والمنتديات والمقاهي، وهناك متابعة مستمرة لهذا الملف، ونحن بصدد المتابعة مع الجهات الأخرى، كالسفارات لمعرفة طريقة لحماية هؤلاء، ففي كل الأحوال هم عراقيون، ونحن لن نتخلى عنهم، ونسعى لترتيب وضعهم القانوني، كونهم تجاوزوا حدود تلك الدول وضمان سلامتهم".
في خضم التحديات التي يواجهها الشباب، يبقى الوطن هو الأمل الحقيقي.
فبدلاً من المخاطرة بحياتكم في طرق غير آمنة ومجهولة، يمكنكم أن تكونوا جزءاً من بناء وطن قوي ومستقر.
العراق يحتاج إلى إبداعاتكم وطموحاتكم لبناء غدٍ أفضل، فأنتم المستقبل الذي سيعيد الأمل إلى هذا
البلد.
فلتبقوا في وطنكم، وتسهموا
في تطويره، ولتصنعوا التغيير من داخله، بدلاً من الهروب إلى المجهول.