عندما اصطدمت سفينة تايتانك بجبل الجليد في عرض البحر سنة 1912، كانت "فيوليت جيسوب" هي المضيّفة وبعمر 24 عاما آنذاك، فانطلقت لمساعدة المسافرين وإركابهم في قوارب النجاة؛ ثم عادت الى حجرتها الى أن صدرت لها أوامر من على ظهر السفينة بالهبوط إلى أحد القوارب. ووسط تلك الفوضى، احتضنت طفلا رضيعا لا تعرف هويته؛ وبعد يوم من الحادثة، وعندما تجمع الناجون من حطام السفينة على متن الباخرة "كارباثيا" التي انقذتهم، أتت إمرأة وأخذت الطفل من جيسوب من دون أن تتفوه بأية كلمة.
لم تكن تلك الرحلة البحرية الأولى لجيسوب، فعندما كان عمرها 17 سنة، قدمت طلبا لتعمل مضيفة بحرية مع شركة "رويال ميل لاينز" البريطانية، لكن تم إبلاغها أن صغر عمرها وجمالها الأخاذ يمنعانها من الحصول على هذه الوظيفة. لكنها باشرت بالعمل في نهاية الأمر؛ بعد سماعها لنصيحة الآخرين بتجنب وضع المكياج، وارتداء ملابس رثة؛ كي تظهر بشكل أقل جاذبية. ومع ذلك، تم طردها أخيرا من عملها بسبب رفضها مضايقات القبطان ومحاولات تحرشه بها.
بيد أن هذا لم يبقها على اليابسة طويلا، فقد اشتغلت جيسوب مع شركة "وايت ستار لاين"، وخلال السنوات التالية لم تخض فقط تجربة غرق سفينة تايتانك، بل شهدت أيضا كارثتين بحريتين أخريتين، ولربما كان عملها ممرّضة قد طغى عليه سمعتها كأكثر إمرأة غير قابلة للغرق عبر التاريخ.
ولدت جيسوب لمهاجر آيرلندي وعاشت غالبية صباها في الأرجنتين، وتغلّبت على مرض السل عندما كنت طفلة. رزقت بتسعة أولاد، لكن ستة منهم فقط بقوا على قيد الحياة الى مرحلة البلوغ. ولم يكن عملها كمضيّفة يمثل نوعا من المتعة، فعلى متن سفن "وايت ستار لاين"، كانت تعمل 17 ساعة يوميا، مقابل أجر شهري تجاوز الباوندين بقليل، وهو مبلغ يساوي ثلثي تكلفة تذكرة الدرجة الثالثة على متن تايتانك. مع ذلك، رحبت جيسوب بهذا العمل لكونه وسيلة للسفر ورؤية أماكن جديدة.
تكرر الحوادث
عندما حل العام 1911، كانت هذه المرأة الكادحة تعمل على متن سفينة "آر أم أس اولمبيك"، وهي الباخرة المدنية الأفخم، عندما اصطدمت مع سفينة حربية بريطانية. ورغم الثقوب التي تركت فجوات في هيكل السفينة، تمكنت أولمبيك من العودة الى الميناء بقدراتها الذاتية، ولم توقف هذه الحادثة جيسوب عن العمل ومن الاستمرار بوظيفتها كمضيّفة بحرية. وتمت إعادة تكليفها بالعمل ضمن طاقم الباخرة الجديدة للشركة؛ تايتانك، لتنطلق الباخرة غير القابلة للغرق بعد أقل من سنة عبر المحيط الاطلسي في رحلتها اليتيمة مع وجود جيسوب على متنها.
كانت ظروف العمل على تايتانك أفضل مما كانت على "أولمبيك"، فبحسب "جورج بيهي"، مؤلف كتاب "على متن تايتانك: ذكريات الرحلة البحرية الأولى"، طبيب الباخرة يرعى شؤون جيسوب بصورة أبوية، الأمر الذي ساعد على منع المتحرشين المفرطين المحتملين الذين كانوا سيجعلون حياتها صعبة. وكتبت جيسوب في مذكراتها "الناجية من تايتانك"، قائلة: "اهتمام الطبيب بي كان له فائدة مضافة، فقد أبقت رجلا مثابرا بعيدا عني، والذي أهله وضع عمله داخل الباخرة لأن يتبوأ مكانة مفضلة، ومالت اقتراحاته نوعا ما الى حياة التشتت الليلي وعدم الاكتراث لمشاعر الآخرين."
لكننا جميعا نعرف كيف انتهت تلك القصة، فبعد أيام قليلة من انطلاقها، اصطدمت السفينة بجبل جليدي قرب شمال الأطلسي، لتغرق خلال ساعات. ولكونها ملتزمة دينيا، قالت جيسوب بأنها كانت لتوّها قد انتهت من أداء صلواتها المخصصة للوقاية من الحريق والغرق عندما اصطدمت السفينة بجبل الجليد.
ويشير بيهي في كتابه الى "أن السبب الثاني وراء عدم تغيير جيسوب لمهنتها هو صحتها، فخلال طفولتها، نجت من نزف رئوي وحمى قرمزية واعتلالات أخرى تركت رئتيها ضعيفة الحال." ويوضح بيهي أن وضع الرئتين عنى لها ضرورة تنفسها لهواء نقي دوما؛ "بالتالي، ورغم خوفي، اخترت البحر،" هكذا قالت ذات مرة خلال لقاء صحفي.
صراع مع الموت
بعد أربع سنوات، وجدت جيسوب نفسها مجددا وسط طريق الكارثة، فقد أعيد تدريبها لأن تكون ممرّضة لصالح الصليب الأحمر، وكانت تعمل خلال شهر تشرين الثاني 1916 مع باخرة أخرى تابعة "لوايت ستار لاين"، اسمها "بريتانيك"، وتم تحويلها الى مستشفى عائم. وفجأة حصل انفجار، لم تفسر أسبابه حتى الآن، فقتل ثلاثين فردا وأغرق السفينة في ظرف ساعة من الزمن؛ وتمكّنت جيسوب من الهبوط الى قارب نجاة، لكنها نجت من موت محقق عندما اقترب القارب كثيرا من شفرات مروحة السفينة الغارقة، حيث رمت بنفسها الى الماء، ليرتطم رأسها بعارضة السفينة، نتج عنها إصابة وصفها أحد الاطباء بعد سنوات بأنها كسر داخل الجمجمة مسببا لها شعورا مستمرا بالصداع.
ومع عدم ارتداعها مما حصل أثناء تلك الكارثة، عادت الى العمل مضيّفة بحرية وممرّضة لغاية تقاعدها سنة 1950، وتضمّن هذا العمل فترة ثانية مع شركة "وايت ستار لاين" خلال العشرينيات وخمس شركات بحرية عالمية
أخرى.
ماتت جيسوب لأسباب طبيعية سنة 1971 بعمر ناهز 83 عاما. وقبل سنة من وفاتها، وبحسب الباحث بشؤون تايتانك "جون غراهام، الذي نقح مذكراتها، تلقت مكالمة هاتفية في وقت متأخر ليلا من شخص سأل إن كانت هي فيوليت جيسوب التي أنقذت الطفل الرضيع اثناء حادثة غرق سفينة تايتانك، وهي قصة لم تتحدث بها مطلقا مع أي شخص. وسواء كان الشخص المتصل مازحا أو ناجيا حقيقيا من الحادثة، لم تتلق جيسوب منه أي شيء بعد ذلك على
الإطلاق.
مجلة اوزي الأميركية