في اليابان.. منازل صغيرةٌ وأحلامٌ كبيرة

بانوراما 2024/12/29
...

 تيم هورنياك

 ترجمة: مي اسماعيل


في متاهة الشوارع الخلفية لطوكيو يوجد بناء هندسي غريب لا يشبه أيا من المنازل المحيطة به.. يبدو المبنى (بجوانبه العمودية الخشبية وشكله المستطيل والغياب شبه التام للشبابيك) أقرب لعملٍ فني أو قلعة مغلقة. ولذا كان الاسم الذي أطلق عليه مناسبا: "الحصن"، وهو مصمم ليكون منزلا.. في الداخل يبدو المنزل صغيرا ومتقشفا؛ فلا توجد أثاث؛ وانما ثلاث نوافذ وشباك سقفي فقط! جرى تمييز الطابقين عبر شبكاتٍ شفافة. أما وسائل الراحة الحديثة فيه فتشمل موقدا كهربائيا ودش استحمام وجهاز تكييف واحداً، وهناك سلم عمودي يقود الى مساحة النوم العلوية.

لقد شيد "شيجيرو سوزوكي" (وهو وكيل عقارات) هذا المأوى المتفرد ليكون منزلا ثانيا وموقعا لعرض نزعة معمارية يجري إستعادتها اليوم عنوانها "تكاليف الاقامة" (أسلوب معماري ياباني يُقدّم تصميمات أصلية "للمنازل الصغيرة" على مواقع صغيرة جداً- المترجمة). 


اقتصاديات ((سوق)) العقارات

يُعتبر اليابانيون رواداً للتصميم البنائي والعيش في المدن الأكثر كثافة سكانية عالميا؛ وتستمد تجربتهم تاريخا من مساكن الناغايا والماتشيا الخشبية المنتشرة خلال حقبة "إيدو" (1603-1867)، ثم مساكن "الثكنات" المُقامة بعد الحرب، ومجمعات الشقق السكنية، والفنادق ذات الشكل الموحي بالكبسولة.. استخدمت اليابان منذ فترة طويلة تصميمات مبتكرة وغرفا متعددة الأغراض لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من المساحة المحدودة لأرضي البلاد. وباتت المنازل الصغيرة جدا هي الخط الأكثر تفردا في ذلك التقليد المعماري؛ ضمن التجاوب الكبير مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية حاليا. 

نتيجة لظروف انخفاض معدل الولادات وتقلص السكان، لم تعد اليابان تحتاج للكثير من المنازل المناسبة للأسر الكبيرة. وظهرت الحاجة لمزيد من التقسيمات الفرعية للمساحات الأكبر لغرض توسيع سوق المساكن ذات الأسعار المعقولة. وهكذا أصبح بعض الشباب العاملين في طوكيو يقتنصون مساكن صغيرة جدا؛ لأنهم لا يريدون قضاء ساعاتٍ كل يوم في التنقل من مدن أرخص خارج العاصمة. وصار هذا النمط منتشرا على نطاق واسع لدرجة أن بعض الأحياء قامت بتقييد التقسيمات العقارية الفرعية، خوفا من أن يُضاعف وجود الكثير من المنازل الصغيرة خطر الحرائق والكوارث الأخرى. 

تقول "نعومي بولوك" المعمارية ومؤلفة كتاب "البيت الياباني منذ العام 1945": " يزداد انتشار المنازل الصغيرة في اليابان بسبب اقتصاديات سوق العقارات والتغيير الاجتماعي؛ وبصراحة.. لجاذبيتها. قد تجعل الضرائب الباهظة المفروضة على الميراث من الصعب الاحتفاظ بالممتلكات المنتقلة من جيل إلى جيل. وبدلا من بيع العقار كاملا؛ يجري اقتطاع جزء منه وبيعه واستخدام العائدات لدفع الضريبة". 

ومع غياب التعريف الجامع للمنازل الصغيرة في اليابان؛ فإنها تُبنى غالبا على قطع أرض لا تزيد مساحتها عن 50 مترا مربعا.. بعضها طويل ونحيف، وعرضها بالكاد أكبر من عُرض سيارة عائلية عادية؛ وكثير منها مبني على قطع أرض ذات أشكال غريبة بسبب بقايا الكوارث أو الحروب أو التقسيمات الفرعية من الماضي. 


البساطة اليابانيَّة

يقف منزل  {سوزوكي} على قطعة أرض مثلثة الشكل (مساحتها نحو 13 مترا مربعا)، ويصل مجموع مساحة الطوابق الى نحو 23 مترا مربعا أو أكثر بقليل. وقد كلف بناء المنزل (مع الارض) في العام 2018 نحو مئتي ألف دولار؛ وهو سعر يقل كثيرا عن المباني المجاورة له والاكبر حجما منه. يقول "سوزوكي" (76 سنة): "إنه منزلٌ صغيرٌ لكنه فريد على مستوى العالم. ورغم أن مساحته أقل من نصف مساحة أي منزل اعتيادي من حيث الصِغَر؛ فقد أخبرني البعض أنهم يريدون شراءه وتجربة كيف ستكون الحياة فيه". 

قام مصمم المنازل "سويتشي كوبو"؛ وهو معماري يعمل مع  شركة "Arch-Planning Atelier"  في طوكيو، بإنشاء العديد من المساكن الصغيرة وسط مواقع غير عادية؛ غالبا لأشخاص يعيشون بمفردهم. فحينما جرى توسيع أحد الشوارع المحلية، بقيت قطعة أرض مثلثة الشكل، ملأها كوبو بمنزل أنيق من طابقين مع حديقة صغيرة وغرفة معيشة يمكن أن تكون معرضاً خلال النهار. كما صمم منزل "موغورا" لسوزوكي؛ وهو منزل من طابقين يبلغ عرضه أقل من مترين وطوله 14 مترا على قطعة أرض ضيقة؛ بعد تقسيم عقار سكني كبير. يتميز المنزل بهيكل يشبه النفق، له فناء داخلي يملأ الغرف الضيقة بالضوء، ويستغل المساحة المحدودة إلى أقصى حد بدرج حلزوني ورفوف معلقة بالحبال. انه تصميم يعكس التأثير المتواصل للبساطة اليابانية؛ خاصة نتاجات المعماري "تاداو أندو" ومنزل سوميوشي الحائز على جائزة العام 1976 في أوساكا.. كان ذلك التصميم عبارة عن صندوق خرساني بلا نوافذ، يبلغ عرضه ثلاثة امتار ونصف تقريبا، ويقع بين مساكن أكثر تقليدية. وينظر إلى منزل سوميوشي بوصفه مبنى متوجها الى الداخل، يتمحور حول فناء يربط بين نصفي المبنى عبر درج وممر مرتفع. 

يقول المعماري كوبو (62 عاما) عن تصميماته الصغيرة: "يرغب الناس بالعيش في مراكز حضرية لأجل الراحة؛ لكن لا يستطيع كثيرون تحمل تكاليف العقارات الكبيرة.. يمكن أن نشعر بالمنازل الصغيرة كأنها كبيرة رغم صغر حجمها، كما أنها تروق لحب اليابانيين للبساطة والأماكن الصغيرة". الآن باتت المنازل الصغيرة تنتشر في أنحاء اليابان.. 


".. كأنه منزل نينجا.."

يعيش "يوشيكي" و"توموكو شيمورا" وابنهما "تاكينا" داخل منزل صغير كانوا قد ساعدوا على تصميمه فوق قطعة أرض مساحتها نحو 102 متر مربع.. انه ليس أصغر المنازل في بلدة زوشي الساحلية جنوب طوكيو؛ ولكنه يتميز باستغلاله المدروس للمساحة وعدد الغرف المدهش. تكفي غرفة المعيشة في الطابق الثاني لاستيعاب 17 شخصا، وتخفي مقاعد الأريكة تحتها مساحات للتخزين، مع جدار فارغ لعرض الأفلام.. وتفصل أقواس جدارية غرفة المعيشة عن غرفة النوم والمطبخ، كما إن هناك فضاء مكتبة يكفي بالكاد لوضع مكتب، وسلم يؤدي إلى علية للقراءة. يقول "شيمورا" عن المخابئ الصغيرة في المنزل: "تصوّرنا المنزل أثناء التخطيط وكأنه منزل نينجا، ولم تكن لدينا الميزانية لتشييد مكان كبير؛ لكننا أردنا منزلا يشتمل على مساحات متعددة.. إنه صغير ولكن هناك العديد من الطرق للاستمتاع هنا". 

في الطابق الأرضي هناك غرفة يابانية تقليدية لطقوس الشاي مفروشة بحصائر التاتامي، وغرفة نوم صغيرة أخرى ومكتب وخزانة ملابس مشتركة للعائلة. ترى السيدة شيمورا إن المناطق الخاصة بالمنزل كانت ميزة كبيرة أثناء الوباء؛ عندما كانت الأسرة مقيدة بالمنزل معظم الوقت. أما "ناوكو مانجيوكو" مديرة التصميم بشركة "أون ديزاين بارتنرز" للعمارة في يوكوهاما التي صممت منزل شيمورا فتقول: "إذا كان الزبائن على استعداد لتجربة منزل صغير، ربما مع تصميم واجهة مميزة وإضافة عناصر خارجية؛ فإن الحجم الصغير ليس عاملا سلبيا على الإطلاق..". 

وفي يوكوهاما، بنى "جونكو" و"هيرويوكي تاشيرو" منزلا بسيطا للعيش مع ابنتهما "نونوكو" براحة والتنقل إلى طوكيو خلال ساعة. قال "تاشيرو" (57 عاما، يعمل في مجال الإعلان): "لقد خططنا لكل شبر للحد من هدر المساحات". بُنيَ المنزل خلال العام 2019 على قطعة أرض مساحتها أقل من خمسين مترا مربعا، وتميزه واجهة من الصفيح المعدني وتصميم نموذجي صغير يحتوي على مكتب منزلي وغرفة نوم في الطابق الأرضي؛ وغرفة معيشة ومطبخ وشرفة ومكتب ضمن الطابق الثاني؛ وحمام وغرفة نوم وشرفة للطابق الثالث. يربط سلّم حلزوني بين المستويات، بينما تعمل فتحة السقف والنوافذ الكبيرة على تعزيز الضوء والشعور بالمساحة. تقول السيدة تاشيرو (58 عاما، تعمل مصممة أثاث من المنزل): "نحن عائلة من ثلاثة أفراد، أردنا العيش في مساحة وظيفية تضم الأشياء التي نحتاجها فقط.. الأعمال المنزلية سهلة للغاية إذ لا هدر للطاقة بالتنقل ضمن مساحة كبيرة.. نحن راضون جدا عن منزلنا الصغير".


صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية